يأتي المعلمون - والمعلمات طبعا - من بيوتهم إلى فصولهم الدراسية محملين ببعض الانكسارات وبشيء من المنغصات، وبكثير من الإحباطات، بين أحداث في المنزل مع الأولاد أو مع الشريك أو الأهل، وأحداث في الشارع، أو أزمة مادية أو مشكلة اجتماعية.
وقد يمرون على مدير المدرسة، فيحدث نقاش حاد أو كلام جارح. بسبب الاستئذان الذي حدث أمس، أو التوقيع تحت الخط الأحمر الذي كان اليوم، أو الخروج قبل نهاية الحصة بثلاث دقائق الذي كان الخميس الماضي.
وعند دخوله الفصل يقابله مجموعة أشخاص لا علاقة لهم بكل ما حدث، سواء ما حدث في المنزل ليلة البارحة، أو في الشارع صباح اليوم، أو ما حدث في غرفة المدير أو الوكيل قبل قليل، بل ولا يعلمون عن ذلك شيئا، وليس لديهم أي فكرة عن جميع الصراعات والظروف والأحداث التي يعيشها المعلم.
هم فقط استيقظوا من نومة جميلة -أو تم إيقاظهم بالقوة بمعنى أصح- ليذهبوا لتلقي العلم، ويفترضون -كما يفترض من أيقظهم- أنهم سيقابلون ملاكا بشريا، كرس عمره للعطاء والبذل، وهيأ نفسه ليقدم لهم أجمل ما لديه، حيث يقدم لهم طبق العلم في إناء من نور، ويزرع في أرواحهم الصغيرة الزهور، سواء كانوا في الصف الأول الابتدائي أو الثالث الثانوي، فكلهم يريد أن يتعلم بحب وأمان وشغف، مقابل العناء الذي يرى أنه تكبده ليصل للمدرسة قبل جرس الاصطفاف الصباحي. ومقابل رحلة كفاح الوالدين الشاقة مع أطفال المرحلة الابتدائية -المبكرة خصوصا- للحضور يوميا للمدرسة في الوقت المناسب، وبأحسن هيئة.
الطالب لا يقبل أن يتحمل هذا العناء ليتعرض للتجريح من المعلم -حتى لو كانت كلمة عابرة لم يلق لها المعلم بالاً- أو التهميش أو التحقير بالفعل أو القول أو حتى الإشارة.
هو يفترض أنه سيقابل أمّا أو أباً آخر في المدرسة، إنما تحكمهما أنظمة من الاحترام المتبادل. هو يفترض أنه ذاهب لتلقي العلم من شخص تم تفريغه وتدريبه وتهيئته وإعداده لهذه المهمة فقط، ولا شيء آخر غيرها. الطالب لا يعرف شيئا آخر غير هذا، وأذكر أنني عندما كنت في الابتدائي كنت أظن، بل أعتقد أن المعلمة ملاك خلق من نور، أو من شيء آخر لا أعرفه، لا ينام، لا يتعب، لا يحزن، لا يتأفف، لا يأكل ولا يشرب، ولا يذهب لدورة المياه. كنت أظنها لم تخلق إلا لتعلمني وتهذب أخلاقي وتربيني، وليس لها أي مهمة أخرى في الحياة، بل ليس لها أي حياة أخرى غير حياة العلم والبذل والتربية والعطاء..!!
ولا أعلم حاليا ماذا تبقى للطلاب من هذه الظنون والاعتقادات، لكن الذي أعرفه أن الطالب ما زال يحزم حقيبته صباحا ليذهب للقاء شخص مهمته الأولى -وربما الأخيرة- التربية والتعليم، ولن يقبل منه شيء غير ذلك، ولا يتصور منه شيء غير ذلك.
وإذا كان من صميم عمل المعلم أن يحيط بجميع الظروف المحيطة بالطالب، سواء داخل حجرة الدرس أو خارجها، والتعامل معه على أساسها، فإن العكس غير صحيح البتة، والطالب لن يقبل في المدرسة شيئا آخر غير المعلم. المربي جميل الصفات، كامل النضج، مكتمل العقل، خال من جميع العقد النفسية، والانكسارات البشرية، بينما على المعلم أن يقبل الطالب المتفوق والمتأخر، الشارد والمشرد، والمتعب والحزين، الميسور الحال، والفقير والمعدم، والعدواني والانطوائي والمتعاون والسلبي والإيجابي، والمتوقد ذكاء والغبي والمتغابي، والجريء والخائف والفصيح وسليط اللسان، والصامت كالجدار، وكثير الحركة والنشاط والخامل بلا حراك، والقادم من منزل تحيط به زهور الحب وتفوح منه روائح الألفة، والقادم من بين أنقاض الانشقاق والاختلاف والتخلف.
ومهما بدا في ذلك من صعوبة بالغة فتلك فعلا هي مهمة المعلم، أن يعيش ويتعايش مع هذه الأطياف مجتمعة، ويمزجها في مصباحه السحري، ليضيء به ليل الناشئين، ويحيل به الصحاري الجرداء، إلى بساتين تموج بالنضارة والحياة.
والآن كم معلما ومعلمة بعد قراءة هذا المقال يظن أنه علاء الدين؟!