الرجع البعيد، رائعة الروائي العراقي المبدع فؤاد التكرلي، واحدة من أجمل ما كتب في عالم الرواية العراقية، وما يشفع لها لتكون رواية أصيلة ورائدة، كونها أُنجزت في ظرف أدبي خال من الأعمال الأدبية الجادة، وهذا ما يميزها ويعطيها صفة الأصالة، وتكشف مدى براعة كاتبها ومعرفته العميقة بقضايا المجتمع العراقي وعاداته وتقاليده، فهي تستحق أن يقال عنها رواية عراقية، وأنا متفق تماما مع ما يقوله كاتبها: «كنت أعلم أن استكمال الأقصوصة العراقية لمواصفات فنية عالية لا يمكن أن يرفعها إلى المستوى العالمي، إلا إذا بُنيت على التراب العراقي. لا جدوى من أقاصيص بدون هوية، ولا يكفي أن تكتب اسما عراقيا على دمية مستوردة من الخارج أو من الخيال».
إن قارئ رواية الرجع البعيد، يستطيع أن يتبين خلال قراءته مواصفات عدة تشهد للتكرلي بالقدرة على الفهم النفسي والاجتماعي لمجتمعه الذي انعكس على شخصيات روايته، لحظة تماسها مع الواقع والحياة اليومية في ظل ظروف سياسية مهتزة تهدد بالانفلات في أي وقت.
فالرواية تريد أن ترينا علاقة الفرد المصيرية بالعائلة والمجتمع والظرف السياسي الراهن، وتصف لنا بطلاقة وعمق وواقعية موقف الإنسان إزاء وضعه الاجتماعي. فالشخصيات هنا ليست إلا إرادات اجتماعية تجاورت في بيت عائلي، فأفرزت بتفاعلها أفكارا وممارسات كانت المعبّر عن شرائح المجتمع الكبرى.
منيرة ومدحت وعبدالكريم ومديحة، أبطال الرواية المأزومين العصابيين، يعيشون في بيت واحد يمتلك خصوصية البيت العراقي الجذور، فشلوا في تحقيق أحلامهم، ذلك أن الحياة في عرفهم ما هي إلا سلسلة من أضغاث أحلام، وهذا الإحساس قادهم نحو الخواء، فاللاجدوى، فالميل إلى الاعتقاد بخلو الحياة من أي معنى.
فالرواية لم تكن تحكي قصة عائلية سطحية بل كانت مفعمة بالمواقف الفكرية والأبعاد الفلسفية، مكتوبة بلغة شعرية، بحيث جعلتنا نقف إزاء فيض شعري يصور الإنسان العراقي في مواجهة مصيره المعلق بين الشك واليقين، وهو في حالة قلق وجودي وتساؤل وحيرة وترقب وانتظار.
إنها رواية حزينة سوداوية، فالحزن الذي عهدناه في الأغنية والقصيدة العراقيتين، الحزن العراقي العريق، لم يكن بعيدا كل البعد عما تحويه الرجع البعيد من حزن مختلط بنوع من الاغتراب لشخصيات موشكة على التداعي والانهيار، فهذا «حسين» العائد من الكويت -بعد إقصاء العراقيين منها لظروف سياسية- وهو في حالة ضياع، بعد أن كان موظفا محترما ويعول أسرة مؤلفة من زوجته مديحة وابنتيه، فجأة يترك كل شيء ويهيم على وجهه في شوارع وأزقة بغداد غارقا في شرب الخمر، تضطر معه مديحة للهرب واللجوء إلى بيت أهلها مع ابنتيها، وهي في حالة عجز عن التعبير عن مشاعرها الحقيقية، بحكم كونها امرأة في مجتمع ما يزال يتعامل معها كونها مواطنة من الدرجة الثانية. فهي تتحمل آلامها بصمت وتعاني دون ضجيج.
ونحس بعمق معاناة مديحة حين نراها تعمل في المدرسة خمس ساعات ثم تعود لينتظرها عمل شاق آخر في البيت، وكأن هذا العمل مقابل وجودها مع ابنتيها الصغيرتين في بيت والدها، بعد أن تحول زوجها إلى كائن آخر منفصل تماما عن المجتمع، وكأنه يعيش في عالم لا تربطهم به أي صلة.
وجود منيرة في الرواية منحها بُعدا رومنسيا، فهي الوجه الصبوح والشمس المضيئة التي تنير ظلام البيت، وهي الكائن العلوي القادم من عالم أثيري بعيد كل البعد من عالم البشر المليء بالشرور. إنها المرأة التي دنّست بغفلة شبابها وعفويتها. فمنيرة هي رمز هذه التراجيديا المعذبة تحت وطأة الاغتصاب والتصرف بكيانها النقي الذي لم يعد نقيا، فإذا بها تحترق بظلمتهم كما احترقوا هم بنورها.
وهذا الجانب الرومانسي يمتزج مع لغتي الرمز والواقع في الرواية، ففيها يتداخل البُعد الواقعي بالبعد الرمزي، فيغتني الواقع ويغتني الرمز، وللتعبير عن هذه التوليفة المتداخلة استخدم الروائي لغة فنية تجمع بين السرد والحوار والمونولوج الداخلي، وما يقتضيه من استعمال طريقة التداعي والعودة إلى الماضي وتوظيف الصور الشعرية. وقد كان التعبير في حوارات القصة بالعامية المحكية المشبعة بالإحساس الشعبي. استطاع المؤلف أن يمنحها الكفاية التعبيرية بواسطة الكلمات الدالة المكتفية بذاتها.
إن هذا العمل الأدبي الحزين المكتوب بلغة موغلة في السوداوية، يحكي قصة عائلة عراقية تركزت فيها كل هموم وإشكالات المجتمع في حقبة زمنية معنية، وهذا البيت الصغير الذي تسكنه كان رمزا للعراق بكل أطيافه وانتماءاته، وما يعتمل داخله من اضطرابات سياسية تمخض عنها انقلاب عسكري وأحداث عنيفة، أطاحت بالجمهورية وزعيمها عبدالكريم قاسم على يد البعثيين.