مراجع معتدٍ زار المنشأة الصحية وهو في الواقع ربما لا يشكو من شيء، أو لربما كانت شكواه لا تتعدى «زكام» أو «إصابة ملعب قبل عشر سنين، وهو الآن يتذكرها فقط، فيعن له أن يمر بالمركز الصحي ليرى هل استجد عليها شيء، علما بأنه لا يعاني من أي ألم!

 هذا المريض الذي يشكو من «لا شيء» سيتصل حتما بالرقم 937 لأنه لم يرق له شكل المنشأة الصحية، فهو إن وجد «منديلا» ألقاه صديقه على الأرض فسيرفع شكوى مباشرة، وإن تأخر عنه الممرض أو الطبيب لمدة دقيقة -علما بأنه ينتظر في المستشفى الخاص ساعات ولا يشكو- فسيرفع شكوى عريضة، وإن «لم يعجبه» شكل الطبيب فقط فسيعنفه لفظيا وربما رمى الورق في وجه هذا المناضل المسكين، وسيرفع بعدها شكوى يكون له فيها «كل الحق» على الطبيب، وعندما يدخل مركزا صحيا فيجد مكتبا لا يوجد به موظف «والمكتب ربما كان مستودعا أصلا» فسيرفع شكوى لا نظير لها إلى 937..

 ليست هذه المشكلة فالمرضى فيهم العاقل وفيهم المجنون وفيهم المنصف وفيهم الظالم وفيهم المحق وفيهم المفتري، وغالب ما يرفع من الشكاوى كيدية أو مبنية على باطل أو ترهات أو خارج صلاحيات المنشأة الصحية، إنما المشكلة أن تجد هذه «الترهات» آذانا صاغية، ويبنى عليها ويستجوب الموظف «المظلوم»، وفي نهاية المطاف يتبين أن المراجع هو المخطئ فيتم «دفن» الأمر دفنا يشبه ما تم دفنه في «بئر هوت»!

 في الحقيقة أن خدمة 937 هذه تعد ظاهرة إيجابية ولكن «في مجتمع منصف» أو بالأحرى بيد مستقبلي بلاغات منصفي،؛ ولا أذم مجتمعنا حاشا وكلا، لكن وبشفافية فإن مجتمعنا ينظر للممارس الصحي بنظرات ثلاث: نظرة ازدراء ونظرة المهمل الذي لا يعمل ونظرة الموظف الذي «راتبه كثير»!

والحقيقة أن النظرة الأولى هي الأغلب وعندما نناقشها فإن سببها هو سياسات وزارة الصحة ذاتها، ومن صور هذه السياسات «التصديق المطلق» لكل من اتصل على 937، والأدهى أنه عندما يتبين أن هذا المتصل «كاذب» أو «مفتري» أو حتى «شاهد زور»، فإن الوزارة لا تحرك ساكنا، بل «تدفن» الموضوع بشكل يجسد لهؤلاء المراجعين «المفترين» المثل الشهير (من أمن العقوبة أساء الأدب)..

ولعل كل ما سبق في كفة والنهج الذي يتبعه بعض مسؤولي الوزارة في كفة، فهو وإن ثبت لديه بأن الممارس بريء وله الحق عكس ما ادعي عليه فإنه سيؤنبه ويخبره بأنه لا يريد «الشوشرة»!

الأمر بسيط لا يحتاج طول تفكير، لتضع وزارة الصحة في «تجربة المريض» أو مستقبلي بلاغات 937 موظفين ذوي خبرة، ممن قد درس ومارس أساليب البشر، وفهم احتياجات الناس وألاعيبهم أيضا، وحذاري أن يوضع موظف حديث التعيين لا يفهم من الحياة إلا ما رأت عينه منذ بضع سنين فما دون، وفوق ذلك يعطي الممارس الصحي حقه عندما يتضح أن الحق له لا عليه، وليشهر بهذا المراجع الغاصب الذي شق جبهة طبيبه لأنه لم «يخن الأمانة» ويعطيه إجازة مرضية مثلا، وليأخذ حق متضرري الصحة على رؤوس الأشهاد، وإلا فكيف ينتظر منهم الإبداع والعطاء تحت هذا الجو المخيف، فبدلا من أن ينسجم أحدهم في العمل وينتج سيبقى «خائفا يترقب»، وسيكون هدفه الحفاظ على حياته، ويا روح ما بعدك روح! وليس ما أورد من باب المبالغات والتفكه بل واقع عاصرناه ويعلمه أصدقاؤنا ضحايا الصحة أو أبطال الصحة سمهم ما شئت!

وقبل الختام، فإني أريد أن أفهم من الوزارة أمرا: لماذا عندما شرعت عقوبات التعنيف اللفظي من سجن وغرامات لم نرها يوما تطبق؟! هل أصبح الممارس الصحي «طوفة هبيطة»، هل هذه الطوفة هي ما تتكئ عليه كراسيهم، أم أنهم لا يسمعون له إذ ينادي، ألهم عيون يبصرون بها؟! أم لهم آذان يسمعون بها؟! إن هم في الحقيقة إلا «عشاق» كرسي «الحلاق» الذي سيغادرونه يوما، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.. وختاما.. لكم الله يا أبطال الصحة، وحماكم الرب من كل مراجع «صائل»، ودمتم آمنين.