لم يستوعب العرب الدرس التاريخي منذ بدأت علاقتهم السياسية بالدولة التركية، وهو كونها دولة ذات نزعة قومية، منذ أن كانت إمارة بسيطة وحتى بعد أن أصبحت إمبراطورية بعد فتح محمد الفاتح القسطنطينية لتكون وريثة الإمبراطورية البيزنطية، وتمكنت من ضم عدد من الدول العربية إليها، فكان قيام الدولة التركية متزامنا مع اختفاء العرب من مسرح التاريخ، وأصبح تاريخهم في تلك الحقب ملحقا بالتاريخ العثماني.

فمنذ وقع العرب في قبضة الأتراك أصبحوا عاجزين عن الفعل في مسرح السياسة العالمية، ربما لأن الدولة العثمانية كان ميلادها في أرض بعيدة عن موطن الدعوة الإسلامية، فنمت وظهرت بعيدة عن الإسلام، مع أنها تلونت به في الظاهر، ولكنها في حقيقتها كانت دولة قومية ذات جوهر تركي طابعها الحرب والسياسة والتوسع، ولهذا لم يهتم العثمانيون بالأمور الثقافية، وفي هذا يقول محمد كرد علي «ومن أهم ما قضى على مدنية العرب في عهد الترك، إهمال المدارس وامتداد أطماع الطامعين في استصفائها، ونزع وقوفها وأحباسها، وفي الخطط التوفيقية. إن النظار في مدارس القاهرة تصرفوا في خلال ثلاثة قرون من العهد التركي على غير شروط وقفها، وامتنع الصرف على المدرسة والطلبة والخدمة، وانقطع التدريس بالكلية لكثرة الاضطرابات، وبيعت كتب المدارس وانتُهبت، حتى آلت الحال ببعض المدارس الفخمة، والمباني الجليلة، أن أصبحت زوايا صغيرة، وزال بعضها جملة، أو صار زريبة أو حوشا أو غير ذلك. ومثل هذا وقع في عاصمة الشام، فقد دخل الأتراك دمشق، وفيها أكثر من 1500 مدرسة للقرآن والحديث والفقه على المذاهب الأربعة، ومدارس الطب ومدارس الهندسة، عدا الربط والخوانق والمستشفيات، وخرجوا منها بعد زهاء أربعة قرون، وليس فيها سوى بضع مدارس عامرة بعض الشيء، ولا تدريس فيها».

إن التجاهل العثماني للشعوب العربية حقيقة تاريخية بدأت مع بداية ظهورهم في المسرح السياسي، وموقف الدولة العثمانية من استغاثات أهل الأندلس، شاهد على ذلك، في الفترة التي شهدت أهم وأخطر التطورات على صعيد القضية الأندلسية قبيل سقوط الأندلس وما تلاها من فظائع وجرائم وانتهاكات لحقوق الإنسان، فكل المصادر التاريخية لم تذكر أي معلومات حول رد عملي جاد قام به السلاطين العثمانيون استجابة لنداءات أهالي الأندلس، فمع كل الظروف الصعبة التي كانت تعانيها الأندلس قبيل سقوطها، كان أهلها يتلفتون حولهم طلبا للنصرة والإغاثة، فتوجهت أنظارهم تجاه الدولة العثمانية، فأرسلوا عددا من رسائل الاستغاثة للسلطان العثماني، كون الدولة تعيش آنذاك ذروة قوتها ونفوذها على المستويين السياسي والعسكري، ومع هذا لم تجد نداءات الأندلسيين أي آذان صاغية.

وفي سنة 1486 أرسلت غرناطة وفدا إلى السلطان العثماني بايزيد الثاني، حاملا رسالة تشرح أوضاع غرناطة وظروف أهلها، وتعبر عن الأمل بالحصول على مساندة السلطان العثماني ودعمه، خاصة بعد ما تعرضت له من شتى صنوف المحن والاضطهاد، وحتى بعدما سقطت غرناطة لم ينقطع رجاء أهلها بتلقي المساعدة العاجلة، أو أن مصيرهم المحتوم سيتراوح بين التنصير أو التهجير أو التحويل إلى محاكم التفتيش، فقد تعرض أهل الأندلس للاضطهاد البشع كجزء من الصراع العقائدي الذي استهدف القضاء على الدين الإسلامي واللغة العربية في إسبانيا، وهنا يتبادر للذهن السؤال الآتي: لماذا لم تأخذ الدولة العثمانية على عاتقها نصرة الأندلس، وهي تعرف جيدا ما يتعرض له المسلمون هناك من انتهاكات؟ لماذا لم تبادر وهي إمبراطورية مترامية الأطراف في آسيا وأوروبا وإفريقيا؟

كانت رسالة الوفد تحمل رسالة استغاثة أندلسية مؤلمة كانت في أغلبها قصيدة رثاء طويلة، تشرح ما حل بالأندلس من مصائب وتستصرخ السلطان العثماني، وتصف أوضاع المسلمين المأساوية في الأندلس، حتى نشأ بين الأندلسيين ما عرف بأدب الاستصراخ والاستنجاد، وهذا الأدب كان مرآة حزينة عاكسة لكل ما تعرض له الأندلس من مآسٍ، ويسلط الضوء على مقدار الخذلان الذي تعرضوا له من إخوانهم في الدين، وحتى في قصيدة أبي البقاء الرندي الشهيرة التي يقول في مطلعها: (لكل شيء إذا ما تم نقصان/ فلا يغر بطيب العيش إنسان)، كان بين سطورها تعريض بالعثمانيين وعتاب لهم لخذلانهم أهل الأندلس.