طريقة الراسخين في العلم هي رد المتشابه إلى المحكم، بينما طريقة الزائغين هي اتباع المتشابه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله، كما قال الله تعالى (هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا * وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَاب).
ومن المحكمات أن الله تعالى شرع الأحكام في العبادات، وأيضا في المعاملات الدنيوية كالاقتصاد والبيع والشراء وآداب السلام والزيارة وعيادة المريض وما يصلح الراعي والرعية من أمور البيعة والجماعة والسمع والطاعة وعدم منازعة الأمر أهله... الخ، وقد وصف الله كتابه بأنه تبيان لكل شيء كما في قوله تعالى (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى? لِلْمُسْلِمِين)، لكن بعض من أراد أن يفصل الدين عن الحياة يُعرض عن تلك المحكمات، ويريد أن يُشغب عليها مستدلا بحديث لم يفهمه، وهو قوله عليه الصلاة والسلام (أنتم أعلم بأمور دنياكم)، مع أنه أصلا ليس حفياً بالاستدلال بالأحاديث النبوية، لكنه توهم أن هذا الحديث يدل على إقصاء الدين عن أحكام الدنيا، فاستدل به.
فأقول جوابا عن ذلك:
أولا: كل ما ورد في القرآن الكريم وصحّ من الأحاديث فإنه حق لا يمكن أن يتعارض، لأنه وحي من الله، قال تعالى (وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا)، وإذا توهم الإنسان التعارض فإن ذلك في فهمه، لا في النصوص الشرعية، وإذا ورد نص فيه اشتباه فإنه يرد إلى المحكم الواضح، فيكون كله واضحا بينا محكما.
ثانيا: حديث (أنتم أعلم بأمور دنياكم) ورد في قضية تأبير النخل، وهي حِرْفَة يعرفها أهل الاختصاص من المزارعين، فلا يصح تعميم ذلك في غير الحِرَف والصنائع ونحوهما، فإن قيل: بل يصح ذلك لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، قلنا: هذا العموم الذي ادّعيته ليس مرادا، والدليل على هذا أن الله بين أحكام التعاملات في الاقتصاد وغيره، وهي أمور دنيوية، بل إن أطول آية في كتاب الله هي آية الدين، فليس لك أن تلغي النصوص المحكمة في ذلك بهذا الحديث الذي اشتبه عليك، ولو تأملت: لعلمتَ أن معنى الحديث هو كما تقدم يتعلق في الحِرَف والصنائع وما شابهها، ولا ريب أن الصنّاع والزّراع والحرفيين من أهل الحِرَف والصنائع ونحوهما هم أعلم بها من غيرهم من الناس، وأما ما يتعلق بالأحكام في أمور الدين والدنيا، فأمره إلى الله، قال تعالى (وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله)، وقال تعالى (إن الحكم إلا لله) وقال تعالى (وإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول) وشيء: نكرة، ورد في سياق الشرط، فيفيد العموم.
ثالثا: شؤون سياسة الحكم، والاتفاقات بين الدول، وما يعقدونه من صلح ومواثيق وعقود، ونحو ذلك هي أمور سياسية دنيوية، ولكن لها أحكام في الشريعة، فهل يريد من يرى فصل الدين عن الحياة أن يلغي تلك الأحكام الشرعية محتجا بحديث (أنتم أعلم بأمور دنياكم)؟ لا ريب أن مجرد تصور ذلك كاف في إبطاله.
رابعا: البيع والشراء والمساقاة والمزارعة وإحياء الأرض الموات والسفر... الخ وحتى قضاء الحاجة، كلها أمور دنيوية، ولكن لها أحكام شرعية، تبين ما يحل وما يحرم، وهكذا آداب الاستنجاء والاستجمار، وعدم استقبال القبلة بغائط ولا بول، وردت فيه الأحاديث الشرعية، فهل يريد من يرغب فصل الدين عن الحياة أن يلغيها، محتجا بحديث (أنتم أعلم بأمور دنياكم)؟.
خامسا: لا يليق بمسلم أن يتبع المنهج الانتقائي، فيأخذ من النصوص الشرعية ما يتوهمه موافقا لما يهواه، ويضرب الصفح ذكرا عن النصوص الأخرى، فهذا كطريقة الخوارج الذين استدلوا بأحاديث الوعيد دون الوعد، وكطريقة المرجئة الذين استدلوا بأحاديث الوعد دون الوعيد، والواجب على المسلم أن يعمل بكل النصوص الشرعية ويفهمها وفق المنهج النبوي، الذي سار عليه صحابة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ومن تبعهم بإحسان، وعليه أيضا أن يرد المتشابه إلى المحكم، ويجمع النصوص الشرعية في المسألة الواحدة، فيعمل بها، ويؤمن بها، لأنها كلها من عند الله، ويقول كما قال الراسخون في العلم، قال تعالى (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا).