بعد فترة من التجاذب السياسي على خلفية تعطل الحكومة بين رئيسة مجلس النواب الديمقراطية «نانسي بيلوسي» والرئيس ترمب، والمتعلق بموعد إلقائه لكلمة حالة الاتحاد، والذي وافق أمس الخامس من فبراير بتوقيت واشنطن، وحيث إن وسائل الإعلام ستركز بشكل كبير اليوم وخلال الأيام المقبلة على محتوى الخطاب ونبرته، ومن المؤكد أن أغلبية القراء الكرام ستكون قد اطلعت عليه الآن، فإن قراءة خطاب حالة الاتحاد الذي ألقاه العام الماضي ومقارنته بما تم إنجازه قد يعطينا رؤية للكيفية التي قد نقرأ بها خطاب حالة الاتحاد الجديد، وما يمكن أن نتوقع من الرئيس على مدار العام القادم.
ربما هي حالات نادرة التي يظهر فيها الرئيس ترمب بخطاب تصالحي أو دبلوماسي يحاول من خلاله تخفيض لهجة التحدي والمناكفة كما كانت عليه الحالة في خطاب حالة الاتحاد في العام المنصرم، حيث بدا للمواطن ولأروقة القرار والسياسة في أميركا على أنه وللمرة الأولى التي يتحدث فيها كرئيس منضبط سياسيا لا كزعيم شعبوي صدامي، حيث وصفته حينها صحيفة «ذي وول ستريت جورنال» بأنه «يحاول لعب دور جديد هو دور المتفائل على عكس الصورة التي عوّد بها الناخبين بأن يظهر عليها كشخص غاضب يفرق بين الأميركيين»، فقد قال ترمب «أدعو إلى أن ننحي جميعا خلافاتنا جانبا ونسعى إلى أرضية مشتركة، ونستدعي الوحدة التي نحتاجها من أجل الوفاء بالوعود للناس الذين انتُخبنا من أجل خدمتهم»، إلا أنه استمر في تعاطيه مع أحداث العام المنصرم على نهجه الذي عرف عنه في مناكفة معارضيه «أزمة إغلاق الحكومة مثالا»، والإعلام وحتى بعض أعضاء حزبه وإدارته، «تصريحاته العلنية عن وزراء الخارجية والدفاع والعدل السابقين مثالا»، إلى جانب تلاعبه بالتصريحات والمواقف تجاه القضايا الدولية والعلاقات الثنائية مع حلفائه وخصومه على حد سواء، مما جعل التصور بأنه رجل يسعى للحلول بدبلوماسية أمر مستبعد.
من أكبر التحديات التي تواجه ترمب اليوم هو قدرته على كسب ثقة وتعاون المؤسسة العسكرية الأميركية، خصوصا بعد أن أعلن انسحابه من سورية مما أدى لاستقالة وزير دفاعه وعدد من قيادات البنتاغون، على الرغم من أنه في خطاب حالة الاتحاد كان قد طلب من الكونغرس إنهاء التخفيض الخطير لنفقات الدفاع، والتمويل الكامل لقواتنا المسلحة العظيمة على حد تعبيره، وهو موقف إن بدا أنه يحاول من خلاله الظهور على أنه داعم للعسكريين، إلا أنه في ذات الوقت أثبت من خلال عمله على أرض الواقع على أنه يريد أن يسيّر البنتاغون على الطريقة التي تتوافق مع خططه السياسية وتطلعاته الانتخابية كما يقول مراقبون، وهو أمر لا يمكن للماكينة العسكرية الأميركية أن تقبله وتخضع له حتى إن أغراهم بمطالباته زيادة الميزانيات والمخصصات العسكرية.
ميزانية وزارة الدفاع اليوم تواجه إشكالية أن ترمب من جانب فقد الاهتمام بدفع الكونغرس لزيادة المخصصات المالية، كما وعد بعد أن شعر بأنه لن يتمكن من كسب ولاء الجيش بالمال، ومن جانب آخر في أنه بدأ يلمح بأنه سيستعين ببعض مخصصات الوزارة في تمويل جداره الحدودي مع المكسيك، في حال استمر رفض الكونغرس تمويل الجدار بالشكل الذي يريده، وهو أمر مرشح أنه إن تم سيتحول لأزمة قانونية بين الكونغرس وإدارة الرئيس.
في خطاب العام الماضي قال ترمب «وكجزء من دفاعنا، يجب علينا أن نقوم بتحديث وإعادة بناء ترسانتنا النووية». في وقت لاحق قام خلال العام المنصرم بإعلان تعليق الولايات المتحدة التزاماتها بمعاهدة الصواريخ النووية والبدء في عملية الانسحاب منها، بسبب أن روسيا غير ملتزمة بها كما قال، وعليه فإنه من الواضح أن تحديث الترسانة النووية الأميركية هو الهدف الذي يسعى له ترمب، وقوله إن سبب الانسحاب هو عدم التزام روسيا ليس إلا ذريعة لتحقيق هدفه المعلن.
لم يكن لأحد أن يتصور أن يلتقي الرئيس ترمب بالزعيم الكوري الشمالي «كيم جونغ أون» وجها لوجه خلال العام الأول من رئاسته، خصوصا بعد خطابه الناري الذي هاجم فيه كوريا الشمالية بشدة، حيث قال «إن سعي كوريا الشمالية المتهور إلى حيازة الصواريخ النووية يمكن أن يهدد وطننا قريبا جدا، إننا لا نحتاج سوى النظر فقط إلى نظام كوريا الشمالية الفاسد بطبعه، لفهم طبيعة التهديد النووي الذي يمكن أن يشكله على أميركا وعلى حلفائنا»، كما أنه لم يكن أحد ليتخيل أن يقول ترمب أنه والزعيم الكوري الشمالي وقعا في الحب بعد ذلك اللقاء التاريخي، وأن «رجل الصواريخ» كما كان يصفه ترمب أصبح رجلا يمكن العمل والتعاون معه لما فيه الصالح العام، وهو موقف إن دل على شيء كما يقول محللون هنا في واشنطن هو أن الرئيس يتعامل مع السياسة الدولية وفق مزاجه كل صباح أو وفق حالته النفسية، فإن كان يشعر برغبة في التعاون تمكن من إيجاد ألف طريقة وطريقة لذلك، وإن تملكه منطق العناد والمكابرة فإنه لن يتنازل ولو بشبر حتى إن كان بذلك سيأخذ الجميع للهاوية.
لا شك في أن ترمب تمكن من تحقيق عدد من وعوده الانتخابية التي قطعها على نفسه، ولا زال ملتزما بالخطوط العريضة التي وضعها إستراتيجيو الحزب المحافظ خصوصا من اليمين، وعلى الرغم من أن أقطاب ذلك التوجه قد خرجوا من إدارته مثل «ستيف بانون» و«سيبستيان غوركا» إلا أن سياستهم لإعادة عظمة أميركا وفق وصفهم لا زال ترمب ملتزما بها، وهي تلك المتمثلة بأهمية تحقيق الانتصار بالحروب، ولكن دون الحاجة للمواجهة العسكرية المباشرة، إلا أن ما يخيف البعض من ترمب هو أنه ليس بـ«صاحب كلمة» يمكن الوثوق بها، ولا يمكن الأخذ بتصريحاته ومواقفه على أنها سياسات مبنية على خدمة المصالح الإستراتيجية للبلاد، وهو بذلك يسعى كما يقولون لأن يدير البلاد بمنطق «بيونغ يانغ» لا بمنهج ضوابط وتوازنات واشنطن.