ربّما تكون في مجلس خاص أو عام، فتسمع أحيانا كلمات تُستخدم بكل سخرية وعدم مسؤولية، ليس لأن القائل يريد أن يؤذي أو يجرح أحدًا، ولكن باستخدامها يسهم في ترسيخ معان سلبية لمعاناة الكثير من البشر حولنا. إنها عادة ورثناها ممن كانوا قبلنا؛ أن نعبّر عن عدم الرضا أو الاستغراب أو السخرية باستخدام جمل مثل: «هل تراني أهبل أو مجنون؟!»، «عذرا عندي حالة تخلّف اليوم!»، «لديّ حالة الزهايمر اليوم»، «لديّ فكرة مجنونة»، «أصابتنا حالة جنان»، «دعك منه إنه متخلف عقليا»، «ما هذا الجنان الذي أنتم عليه؟!»، «هل تحسبني معاقا عقليا؟!»، «خرجت من المنزل مثل المجنون»، «تعقّل وبلاش جنان»، طبعا القائمة تطول، وما على الفرد منّا إلّا مراجعة نفسه بكل شفافية ليجد أنه قد استخدم مثل هذه المفردات في وقت أو في آخر!
يقول د. عبدالعزيز لطفي الشربيني: «هل يعيش العالم الآن عصر انتشار الأمراض النفسية!؟ قد تكون الإجابة عن هذا السؤال مدعاة لقلقنا جميعاً. ومن خلال قراءة التقارير العالمية وما تتضمّنه من الأرقام حول انتشار الأمراض النفسية في العالم اليوم، ومؤشّر زيادة أعداد المصابين بها في كل المجتمعات بغير استثناء». كما ذكرت صحيفة اليوم السابع أنّ دراسة أجريت في كلية هارفرد للطب لمصلحة منظمة الصحة العالمية، فأظهرت نتائج الدراسة أن «الأمراض العقلية والنفسية بدءاً من الاكتئاب الحاد وانتهاءً بنوبات الغضب الجامح شائعة في العالم بصورة تبعث على الدّهشة، وأنّ معظم الحالات السيئة لا يتم علاجها»، وقالت الدراسة التي تعتبر من أكثر الدراسات تنسيقا على مستوى العالم: «إن نسب انتشار هذه الأمراض تختلف من دولة إلى أخرى»، وإذا أجرينا بحثا سريعا على شبكة الإنترنت فسوف نجد الكثير من الأدلة على ارتفاع نسب الأمراض العقلية والنفسية، وهنا نتساءل: هل جميع المرضى يتوجهون إلى المتخصّصين من الأطباء لتلقّي العلاج؟ هل الجميع لديه الشجاعة بأن يعترف بأن لديه مرضا نفسيا أو عقليا؟ ما الذي يمنع الكثير ممن لا يسعون إلى العلاج لمساعدة أنفسهم؟ قد تكون الإجابات كثيرة، ولكن من المؤكد أنّ من بينها الخجل والخوف من رؤية وتصنيف المجتمع المحيط بهم! لماذا؟ لأن وصمة العار المرتبطة بالاعتراف بالأمراض العقلية والنفسية لا تشجّع الناس على طلب المساعدة.
لنعد قليلا إلى الخلف بتاريخ علاج الأمراض العقلية والنفسية، فقد بدأت في القرون الوسطى بالتعامل مع هؤلاء المرضى كأناس مسكونين، ويجب تخليصهم من الشر بعملية طرد الأرواح الشرّيرة أو العفاريت التي كانت - حسب معتقداتهم- في داخلهم! بالطبع كان الكثير يُقتل خلال تلك العمليات الوحشية، ولا ننسى أن هذه السلوكيات ما زالت تستخدم من قبل البعض في يومنا وعصرنا هذا! ثم مع بداية القرن السادس عشر بدأت تظهر مصحّات، ولكنها لم تكن للعلاج، بل كانت فقط لجمع هؤلاء المساكين في أماكن أبعد ما تكون البيئة فيها عن الإنسانية أو الحضارة، حتى إن بعض المرضى كانوا يُربطون بالسلاسل، أو يُسجنون في غرف منفردة مدى الحياة، وفي هذا الوقت بالتحديد ظهرت أو لنقل تكونت كلمة «Crazy» أي: جنون! وحملت معها وعلى مرّ العصور المعنى السلبي الذي تحمله، حتى وصلتنا... فأضفنا نحن السخرية والاستهزاء إليها!
عندما نسيء باستخدام كلمة «مجنون»، أو عبارات أخرى عن الأمراض العقلية والنفسية، فليس من المحتمل أن تكون مؤذية للأشخاص الذين يعانون من مشاكل عقلية أو نفسية، بل هذا الأمر مؤكّد، فالوصمة المرتبطة بالاعتراف بهذا الأمر محبطة، بل في كثير من الأحيان مُذلة! وبما أن هذه التعبيرات مسيئة، ومن المحتمل أن تكون ضارة وعديمة الفائدة طالما أنها لا تعطي صورة واضحة ودقيقة، فهي بالأساس لا تضيف معلومة صادقة للحديث، لِمَ لا نبحث عن بعض البدائل؟ فبدلًا مِن استخدام عبارة «سائق مجنون» لنستخدم «سائق متهور»، وبدلًا من «فكرة مجنونة» لنستخدم «فكرة غريبة»، وبدلًا من «عندي حالة تخلّف اليوم» لنستخدم «عندي حالة خمول فكري اليوم»، وهكذا لنرتقي بمفرداتنا لكيلا نمسّ شعور أحد ممّن حولنا، فنحن بذلك استبدلنا العبارات بأخرى أكثر دقةً ووضوحا لما نريده أن يصل من الرسالة.
قد يستغرق هذا التغيير الكثير من الوقت حتى نعتاد ملاحظة وتدقيق مفرداتنا، لأننا كما نعلم جميعًا أن العادات القديمة تموت ببطء، ولكن يجب أن نبدأ بدلا من العناد والمكابرة والتقليل من الموضوع! إن الأمر ببساطة عائد علينا، والقرار بيدنا؛ أن نستمر ونحن نعلم الآن - إن لم نكن نعرف من قبل - أن هذا الأمر يسبب ألما وحزنا وحرجا لإنسان مريض، بل يثبط من عزائم الكثير من الناس من الذين نعرفهم أو لا نعرفهم ممن يعانون من هذه الأمراض أو حتى أسرهم، في أن يتقدّموا ويبحثوا عن العلاج، أو أن نعمل على الارتقاء بمفرداتنا إلى مستوى الإنسانية، فقد قالها يوما أجدادنا، والحكمة في الكثير مما قالوا؛ «إنّ الملافِظ سعادة».