يتأثر الكاتب والقارئ بالسائد من موضوعات الكتابات المتنوعة في أعمدة الصحافة الورقية والإلكترونية ومنصات التواصل الاجتماعي المتعددة، إذ نجد الغالب في تلك الموضوعات نقد السلبية ضمن محاولاتنا المستمرة لإصلاح بعض الجوانب التي نراها -من وجهة نظرنا- تحتاج إلى التصحيح والإصلاح، رغم ما نتلقاه ونتعلمه من مفاهيم ونظريات، تحثنا على نشر الإيجابية وإشاعة الجو الإيجابي، كعامل مهم من عوامل التغيير وصناعة التأثير، على مستوى الذات أو الآخر، لكننا نجد أنفسنا أمام نتاجنا الثقافي نؤسس كيانات عملاقة من نقد السلبية، ونثري تناولها في تفاعلاتنا الثقافية متعددة الأوجه، وهي في الواقع مادة ثرية ألفنا قراءتها في نتاجنا الثقافي على المستوى المحلي والعربي بشكل عام، نتيجة ظروف ألقت بظلالها منذ زمن على محيطنا الإقليمي، وانعكست على ذهنية المثقفين، من شعراء ومؤرخين وكتاب، مولدة لديهم الرغبة في الإصلاح وصناعة التغيير ونقل المجتمع إلى واقع أفضل، تقلُّ فيه مظاهر السلبية، وتعلو معايير المثالية والإيجابية.
وليس عيبا في كتّابنا أو قراءاتنا، بقدر ما هو إثارة لتساؤل لا تحضرني إجابته ولن تكون حاضرة في ذهن القارئ أيضا! وهو: ما أسباب غياب الروح الإيجابية في نتاجنا الصحفي خصوصا؟ وخطابنا الثقافي عموما؟
وبصيغة أخرى: كم نسبة الكتابات الصحفية التي خصصت مضامينها لإبراز الجوانب الإيجابية في مجال أو قطاع ما، مقابل الأخرى التي خصصت مضمونها لنقد السلبية وإبراز الخلل في ذلك المجال أو القطاع؟ أليس من الحق أيضا إبراز النجاحات وحفز التميز والإشادة به دون أن يكون أبرز المغيّبين في قائمة الوجود والحضور؟
وكلاهما مجال للكتابة ومساحة للمثاقفة والتواصل، يلتقيان في مفهوم التحسين وترسيخ مبادئ المثالية التي تتطلب تعزيز الإيجابية وتعديل السلبية، لكن أيهما يغلب الآخر؟
إنه مجال للتأمل لإتاحة الفرصة للمغلوب للنهوض -ولو لحظة- للتعبير عن وجوده وقدرته على التنافسية بفعل الثقة ونظرة التفاؤل التي تتسامح معه كموجود، لأنه الأحق بالبقاء والبروز والغلبة!
ولا يمكن -بالفطرة السليمة- الشك في المحتوى المنتج بأنه يهدف إلى الإساءة أو التقليل من شأن المعني بذلك المحتوى النقدي، إلا ما ندر ولا حكم لنادر.
وعندما نضيّق زاوية الرؤية قليلا لتبسيط المفهوم في «إحياء الإيجابية» لنسقط الاستدلالات على قطاع معين -كالتعليم مثلا- وهو القطاع الذي حاز النصيب الأكبر من التفاعل الثقافي، ولا يكاد يخلو يوما من ضجيج الكتابة التي تناولت كل تفصيلاته من كتّابٍ داخل المهنة وخارجها، وقد يكون البعض من سلطته وقياداته العليا، في حديث مستمر تبرز فيه مكامن السلبية ونقد السياسات والتقليل من شأن بعض مبادراته، وقلّما نجد كتابات متخصصة في إبراز بعض نجاحاته وأحداثه المتغيرة دوما، التي لا يعقل أن تكون بلا إيجابية، ولو وجدت بعض المساحات الخجولة في الثناء والإشادة بمحاور التميز، فسنجدها نثارا على هامش العتابات المتلاحقة.
ولو أجريت دراسة بحثية للمحتوى الكتابي على أعمدة الصحف الورقية فقط -فضلا عن الصحف الإلكترونية- لعرفنا حجم التناول المندفع في مجال مكاشفة الأخطاء وأكوام السلبية، ولو وقفت تلك الدراسة على استطلاع جملة من عناوين الكتابات الصحفية فقط دون الغوص في عمق المحتوى، فإننا سنخرج بكَمّ هائل يدلنا على شيوع هذا الاتجاه وغلبته على الآخر، وسندرك أن تفاعلاتنا الثقافية قد أطالت المكوث في دائرة مقاومة السلبية، ووظفت كثيرا من المعطيات والإمكانات المتنوعة للاصطفاف في هذا الاتجاه.
وقد نتج عن تنامي خطاب النقد الاجتماعي والسياسي والمذهبي إفراز مخرجات طوّعت هذا المفهوم لمصلحة خاصة، واتخذته سبيلا للنيل من بعضها البعض، ومنهجا للمزايدات والتشكيك، خصوصا في مجالات الدين والقيم والمواطنة.
وفي هذا الجو المشحون بمفردات السلبية، فقدت بعض مؤسساتنا روح العزيمة، وتهيبت السير خوفا من لذعات النقد، ولدغات الإعلام. وكما قيل: «عين الناقد بصيرة».
فمتى ستتجه أقلامنا إلى منصات الإيجابية بشكل جماعي؟ ونكشف جوانب مشرقة من نجاحاتنا المتنوعة في جميع مؤسساتنا، وعلى المستوى الفردي أيضا، لأننا في مرحلة مهمة لتكوين مفاهيم الإيجابية والنزعة التفاؤلية وإشاعتها في أوساط المثقفين والعامة، على حد سواء، لتصحيح بعض المفاهيم التي ألحقت الضرر بالمجتمع، وتسببت في تكوين نظرة سلبية عامة ضد بعض المؤسسات أو الأفراد، وحاجتنا إلى تجاوزها أكثر إلحاحا في الوقت الحاضر.
وبينما كنت أفكر في بناء هيكل إيجابي يحاول النضوج في هذا المحتوى، يتلاءم مع ندائنا بإيقاظ الإيجابية في الكتابة الصحفية وخطابنا الثقافي بشكل عام، إلا أن مفهومنا السائد أذابه في سياقه المألوف، على أمل أن ننمي في أرواحنا الناقدة مبادئ الإيجابية التي تحفزنا على النماء الثقافي والتعايش الإنساني، والتشجيع الهادف وسرد قصص النجاحات، وروايات الارتقاء نحو فضاءات التفاؤل والتسامح.