عادة عندما يكون الطرح مباشرا وواقعيا لأي قضية من القضايا الاجتماعية، أو القضايا التي لها تماس مباشر بأمن الوطن وسلامة مواطنيه، ويتم تناولها بطرح عميق يتناول صلب القضية؛ فإن ذلك يسهم بدون شك في حلها، أو الحد من تكرارها مستقبلا، ويقطع الطريق على كل من يحاول استغلال تلك الأحداث للإضرار بسمعة الوطن وأهله.
بلادنا كما نعلم تنهج «المنهج الوسطي» الذي ينحو بمواطنيها وأبنائها نحو الاعتدال، والابتعاد عن الغلو والتطرف، فالتطرف بكل جهاته وأشكاله، إما تطرف ديني، أو تطرف انحلالي أخلاقي، كلاهما مضران بالوطن، وجميعنا يعلم أن شبابنا كانوا في فترة ما مستهدفين للانخراط في الجماعات الإرهابية، حتى تم التنبه لذلك الأمر، واستدعت الدولة كامل طاقاتها نحو تجنيب أبنائها ميادين الإرهاب وشروره، ونجحت في التصدي له وملاحقة الإرهابيين، واليوم، فنحن لا نهول من قصة هروب الفتيات، لكن لا يمكن لنا نتعامى ونشكك في وجود من يريد تجنيد المراهقين والمراهقات من أبناء الوطن وبناته، ودفعهم إلى الهروب إلى خارجه، للإضرار بسمعة الوطن، واستغلالهم في مواقف سياسية كما حدث في قصة رهف، الأمر الذي يستوجب الالتفات نحو المواقع والأشخاص والجهات التي لا تزال تقف وراء تحريض بناتنا للهروب خارج وطنهن، وتجميل الغرب، والدعوة لإسقاط الولاية لأن هذا أمر مرجعه للدولة وليس عبر الحملات والهاشتاقات.
فلا يمكن بأي حال من الأحوال أن يكون «العنف» الذي قد تواجهه فتاة ما في السعودية؛ سببا مقنعا كي يدفعها للهروب خارج وطنها، مهما كانت الأسباب والأحوال والظروف، ولو إن كل وسائل الإعلام الخارجي تروج لما يقال عنه «العنف الأسري»، وهو الفرية التي ترددها كل فتاة لديها ميول للهروب خارج بلدها، وتحقيق رغبة العيش في بلاد أجنبية، إما بدوافع شخصية تحت تأثير من الإغراءات والافتتان بالغرب الذي تنقل لها عنه صورة مبهرجة بخلاف الواقع، أو أن هناك من يزين لها العيش خارج وطنها، بحجة أنها ستجد أجواء من الحريات والحياة، غير تلك التي تجدها بلادها، وهي في حقيقتها ليست أكثر من أوهام في أوهام، لأنه من المستحيل أن يكون «التعنيف» سببا قويا ليدفع فتاة ما ويجعلها تسافر وتتخطى البحار والدول والمحيطات، كي تبحث عن بلد لتهرب إليه بعيدا عن عنف أسرتها، هذا لو افترضنا جدلا أنها تواجه العنف داخل أسرتها، لأن في معظم الحالات التي سمعنا بها كان الأهل ينكرون وقوع بناتهم تحت التعنيف، وإنما هناك دوافع منهن للعيش بطريقة مخالفة لتقاليد الأسرة، ومختلفة عن حياة المجتمع.
ونحن لن نكابر ونقول لا يوجد لدينا ممارسات خاطئة، فلسنا مجتمعا ملائكيا، وقد تكون هناك حالات لفتيات يلاقين العنف، الذي يختلف في نوعه وظرفه في حالات المُعَنف والمُعنِف، لكن في المقابل، فالدولة رعاها الله أسست جمعية لرعاية حقوق الإنسان، وهيئة لحقوق الإنسان ومراكز وبرامج لحماية الأسرة، ووزارة العمل والتنمية الاجتماعية، وغير ذلك من الجهات التي قد توفر الحماية لكل فتاة قد تواجه التعنيف الأسري واللجوء إليها، والرجوع كذلك إلى أقربائها، واللجوء إلى الجهات القضائية لحمايتها، ويمكنها اللجوء إلى أهل الخير في المجتمع للتدخل في قضيتها، فنحن في الأول والأخير «مجتمع مسلم عربي» تحكمه ضوابط وقيم وتقاليد، ويؤمن بما أوجده الدين الإسلامي من تعاليم لحماية حقوق الإنسان، رجلا كان أو امرأة، صغيرا كان أم كبيرا، فالدين الذي وجّه إلى رعاية الحيوان والرفق به، وعدم تعنيفه أو تخويفه؛ فمن باب أولى أنه قد نظر إلى وضع الإنسان ووجه إلى حماية حقوقه، من قبل أن تأتينا فكرة الجمعيات والهيئات التي تهتم بحقوق الإنسان في العالم بمئات السنين.
فحقيقة هروب الفتيات إلى بلدان أجنبية، وإن بدا لنا أن وراءها قصص تعنيف، وعليها تمت عمليات الهروب، تبدو مبالغا فيها، ولا يمكن أن يدعو فتاة تعرضت له -لو افترضنا ذلك- إلى الهرب إلى بلد أجنبي، تعرف حجم المخاطر التي قد تعترضها هناك، وفي قصة رهف التي أنكر والدها في بيان للأسرة أن تكون ابنته قد تعرضت للتعنيف، لا يمكن لنا النظر إلى هذه القصة ومثيلاتها بهذه السذاجة، وجميعنا شاهد «الاستغلال السياسي» من قبل وزيرة خارجية كندا التي استقبلت رهف، ثم ليس سرا توالي تدفق الصور التي جمعتها بناشطين وناشطات، بعضهم عُرف عنهم انقلابهم على بلدانهم وقيمهم وأخلاقياتهم ودعواتهم للتحرر والشذوذ، والمؤتمر الصحفي الذي رتب لها وتسهيل عملية لجوئها بسرعة، بينما هناك ما يقرب من 47 ألف طلب للجوء لكندا، لا تزال حكومتها تنظر فيها، إذا فالقصة أكبر من هكذا تسطيح لقضية الهروب، كما يريد بعضهم أن نربعها ونخمسها، فقبولنا بأن القصة هي «عنف أسري نتج عنه هروب» يجعلنا وكأننا نسمح لكل من أراد أن يوظف الحدث في أن يلوث سمعة مجتمعنا وبلدنا كيفما يشاء، وكأننا سنرضى بالضغوط لدفع التهمة عنّا، ليفرض علينا من يشاء أفكاره وأجنداته، وهذا لن يحدث، وعندما ترى الدولة أنها بحاجة إلى تعديل قوانين ورسم قرارات، فسيكون وفقا لما تمليه الشريعة للمحافظة على استقرار وسلامة المجتمع وأمنه وأمن أفراده.
ولهذا فهؤلاء الذين يجهلون طبيعة مجتمعنا، عليهم أن يتعلموا ويعلموا، أن بلادنا تسير وفق وتيرة محسوبة الخطوات، إلى كل ما من شأنه أن يوجد حياة متناسبة من الحريات وفق ما تسمح به الشريعة السمحة بوسطيتها، التي أتت لتحمي الإنسان وتحفظ له حقوقه «دينه ونفسه وعقله وعرضه وماله» لكن هناك من لا يريد فهم ذلك، ويظن أن «التغيير» يعني الانقلاب على كل شيء، على القيم والأخلاقيات وعلى التقاليد وهذا مفهوم خاطئ لمعنى التطور والتغيير.
وقبل الختام، اسمحوا لي أن أقول: إن قليلا من الكتاب الذين تناولوا قصة رهف بعمق وإحاطة، دون تبرير أو خلق أعذار لما حدث، ولامسوا حقيقة وجود من يغرق المراهقات بالأحلام الوردية، ويعدهم بجنة الحرية في بلدان الغرب، من خلال تسويقه لفكرة حياة الحرية والحياة الأفضل، كما سمعنا ذلك من وزيرة خارجية كندا حينما قالت على الفضائيات «الآن ستجد رهف حياة أفضل»! مما يجعل من تفكر في الهروب تركب «موجة العنف» كتهمة جاهزة وشماعة لتصل إلى «أبواب الجنة الدنيوية الموعودة بها في الغرب»، وتجهل أن المسألة لن تتجاوز أشهرا حتى تكتشف الخدعة، وهي تواجه مصيرا مجهولا وقد نُسيت، بعد أن يكون قد تم توظيفها سياسيا، وإذا كانت حياة المرء في الغرب تجري بلا قيود دينية أو اجتماعية، فيجب أن يتعلم أولادنا أن حياة الإنسان في مجتمعاتنا المسلمة، تسير وفق منهج واضح، تنظمها وترتبها علاقة الإنسان بخالقه، وبما هو مكلف به من واجبات دينية وصولا إلى «يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم».