علي موسى



العظماء يموتون ويبقون أحياء في ذاكرتنا وتاريخنا، هكذا عرفت الوالد والأخ والصديق محمد عبدالله حميد -رحمه الله- للمرة الأولى، وأنا طالب في المرحلة المتوسطة، وكان مع والده الأديب -رحمهما الله جميعا- في محاضرة لأستاذ من كلية الشريعة فرع جامعة الإمام بأبها، يتحدث عن عسير بما ليس منها، فوقف والده عبدالله وقال «ذكرت لنا - زعيط ومعيط - ولم نعرف من هؤلاء أحدا، ثم فنّد ما ورد منه، لتعصف القاعة بالتصفيق»، ثم دخلت عليه النادي الأدبي بأبها بصحبة الصديق المرحوم علي آل عمر عسيري، وقدّمني الأستاذ علي لأكون عضوا في النادي، فرحّب بي واستمع إلى بعض قصائدي، وأصدر لي بطاقة العضوية في اللحظة نفسها، وتتالت الأيام وأنا أرى هذا الرجل مثل الشجرة المثمرة، يحيط بكل من يقصده بظله ورفقه وأخلاقه، وإذا كنا نحن محبيه نشعر بغياب كبير وفقد عظيم، فإن الحروف والكلمات تعتصر ألما وحسرة على فقد واحد من فرسانها الذين أسسوا المؤسسات، وشاركوا في بناء الوطن، بفكرهم وعملهم وتطوعهم في كثير من المجالات، كان قيمة مضافة لكل مكان يعمل فيه، كما كان فخرا لكل من يعرفه أو تعرف عليه أو سمع به.

يحيطك بلطفه وبأخوته وأبوته، وهذا ديدنه مع كل من يتعامل معه، صوته يجلب الطمأنينة في المكان، ويشعرك بهيبة ووقار وأدب جم.

انتقل سيد المواقف المشرفة الذي تمترس في ركن الوطن مدافعا عن قضاياه، ومبشرا بسجاياه، هناك في زاوية الوطن كان حارسا من الحراس الأوفياء، وناقدا من النقاد الفضلاء، يطل من زاوية «الوطن» ناصحا ومشيدا ومكافحا عن قضايانا المحلية والوطنية والعربية والإسلامية والإنسانية.

نعم، كان وفيّا لأهله ومجتمعه ووطنه، وللفكر والثقافة والمثقفين، ورمزا من رموز الوطن الذين نحتج بهم، وكان وما يزال وسيظل مرجعا من مراجعنا التي نلوذ بها وإليها، في الرد على الشبهات والافتراءات والمنغّصات التي تقذف بها المنطقة من بعض المشبوهين في علمهم ومعرفتهم، وحتى انتقائيتهم ونقدهم الذي يعتمد الشبهات للنيل من الثوابت والمرجعيات.

أبو عبدالله -رحمه الله- حين ننظر في أبها وما حولها وفي الوطن، نجده القامة الطويلة التي تعلو مع قامات الوطن ورموزها، نراه حتى وهو في داره يجول معنا في أفكارنا ومواقعنا.

نعم، هناك رجال ونساء، حتى وهم أحياء بعيدون عنّا بأجسادهم، ولكننا نراهم يقفون أمامنا بهيبتهم ومواقفهم المشرفة.

أبو عبدالله لم يمت، فقد خلّف رجالا أوفياء يسيرون على خطى آبائهم وأجدادهم، وهم يخدمون الوطن في مواقعهم المختلفة بصمت وأدب، ونعلم أن فقدهم والدهم كبير، ولكننا نشاطرهم العزاء في والد الجميع الذي يجمع ولا يفرق.

رحمك الله يا فقيد الوطن، مهما حاولت أن أستعيد من مواقف كثيرة وكثيرة عن فقيد الأهل، أجد أنني مقصر في استرجاع سجل حافل بالإنجازات والمواقف المشرفة، لرجل عاش مناضلا بقلمه ولسانه وفكره عن وطنه وأمته ودينه، وكما قال الأخ القدير الأستاذ أحمد عسيري في زاويته، في ركن من أركان الوطن «قبل أن ينطفئ السراج» الذي كان في إحدى زوايا الوطن مشعا بفكره وثقافته وهمومه وقضاياه.

نعم، لم يكن -رحمه الله- يعيش ليمجد في ذاته بل كان يمد يده للآخرين يجذبهم إلى دائرة الضوء مع الجميع في بوتقة الثقافة والعطاء الجماعي.

كان فقيدنا جسرا يربط المثقفين في الوطن من شمال البلاد إلى جنوبها، ومن شرقها إلى وسطها وإلى مغربها.

رحمك الله يا أبا عبدالله، كم كنت وفيّا للجميع. نحن لن نفيك حقك، ولن نضيف لك شيئا في سجلك الحافل بالعطاء، ولكننا نريد أن نذكّر الجميع بأن هذه القامة الكبيرة ليس فقيد الفكر والثقافة والأدب والأهل والمجتمع، ولكنه فقيد الوطن الذي يجب أن يكرّم في إطار وطني.

فهو لم يبخل على الوطن وهو في فراش مرضه، يكتب وينشر الأمل في الجميع ويذود عن الوطن. وإذا كان الأستاذ أحمد عسيري قد نادى قبل أسبوع من وفاة فقيدنا بتكريمه، فإنني باسم الوطن وباسم جميع محبيه ومعارفه، أنادي بأن تكون هناك جائزة في النادي الأدبي بأبها باسم الأستاذ محمد بن عبدالله بن حميد «عاصمة الثقافة في عسير». هذا الرائد الذي ترك لنا إرثا من العمل الثقافي الكبير، وأسس لأجيال هي اليوم تقطف ثمار جهده وعمله مع زملائه الأحياء الأوفياء، أمد الله في أعمارهم بالصحة والعافية، أو من سبقوه أمثال الأستاذ على عمر عسيري.

هذا واجب على جميع المنتسبين إلى هذا النادي الذي شهد في عهده ترفا فكريا وثقافيا نادرا حتى في النوادي الأخرى، بما فيها من ثراء الفكر والثقافة والمعرفة والمال. رحمك الله يا أبا عبدالله، وأسكنك فسيح جناته، وألهم أهلك الأولين والمقربين والقريبين إلى فكرك ومنهجك واعتدالك وتسامحك، والمحبين لك وهم كثر داخل الوطن وخارجه، الصبر والسلوان، وتغمدك بواسع رحمته.