(مدخل)
في المواجهة مع التيار الإسلاموي السعودي لا يبرع الطرف المدافع عن الوطن إلا حينما يكون أميراً، وهذا يتجلى في عدد من المسؤولين الأمراء الذين كانوا في مواجهة مباشرة مع هذا التيار، ومع التقدير لجهود كل شخصيات المواجهة من أدباء ومثقفين ومسؤولين، وإسهاماتهم، إلا أن الضربات الموجعة التي تحفر في العمق الصحوي وتؤدي إلى خلخلته دائما تأتي من أصحاب السمو الأمراء الذين يضعون أعراضهم وسمعتهم على «كف عفريت» مقابل مصلحة الوطن وصالح المواطن في مثل هذه المواجهات، وكثير ممن عاصر فترة ما بعد أزمة الخليج الثانية، يذكرون كيف كانت بذاءة ووضاعة نشرات المسعري والفقيه، حينما تفري زورا وكذبا في أعراض الأمراء على وجه الخصوص، تذكرت هذا المعنى وأنا أستحضر الأحداث الكثيرة التي عايشها مؤثرا ومتأثرا، الأمير الأبرز في عمليات المواجهة مع الصحوة الأمير خالد الفيصل، رجل الدولة ورجل الموقف ورجل الوطن، والذي تتجدد معه ذكرى طويلة وممتدة من المواجهة مع طيور الظلام وخفافيش الليل، والذي واجه شراسة الصحوة، ولاقى منها الأذى حتى شبع الأذى، وعلى الرغم من ذلك تلاشى كل أولئك وبقي الأمير -حفظه الله- يغرِّد وحده إبداعا وحبا لكل ما هو سعودي.
وأيضا لا يفوت في هذا الإطار ذكر حنكة الأمير فيصل بن بندر أمير منطقة الرياض، والذي كان أميرا للقصيم، أثناء الأحداث المسماة (أحداث بريدة)، وما قبلها وما بعدها، وكل من تعامل مع الأمير فيصل بن بندر -حفظه الله- يعلم مدى جديته وذكائه وألمعيته وتمرسه في العمل الحكومي، لذا لم يكن مستغربا أن يخرج من نفق تلك المشكلة بسلام وقوة عاد أثرها الإيجابي على أبناء المنطقة.
(اتصال)
لم تكد تهدأ أسارير الدكتور سلمان العودة، إلا لتثور مرة أخرى، فرحا بالاتصال المفاجئ الذي قام به وزير العمل الدكتور غازي القصيبي حينها على برنامجه الرمضاني (حجر الزاوية) في أحد أيام رمضان 1429، والذي أشاد ببرنامجه، وامتدحه، وتبين من خلال الحديث أنه متابع دقيق لبرنامج العودة.
كان الراحل القصيبي -رحمه الله- يحذر في زمن سابق من حرب (الكاسيت) التي كان يقودها العودة، ولعل الذي جعل القصيبي يتنازل عن موقفه الريادي في مواجهة الفكر الحزبي التخريبي، بهذه البساطة، هي حملة العلاقات العامة التي قام بها الصحويون لترميم علاقاتهم مع كل أطياف المجتمع وطوائفه بعد الخروج من السجن في أبريل 1999، ولم يكن ذلك في سبيل الألفة واللحمة الوطنية، بل كان الغرض حيازة تلك الأصوات وصبها في صعيد واحد ضد السياسي، ولو بعد حين، وهو الأمر الذي اتضح لاحقا.
والقصيبي الذي قال عنه العودة في عدة لقاءات كان من آخرها الحلقة الأخيرة من برنامج «آدم» على قناته في موقع «يوتيوب»: (... أذكر على سبيل المثال الدكتور غازي القصيبي، إذ صار بيننا وبينه أيام حرب الخليج نوع من المنافرة الثقافية، فلما كنا في السجن بلغني أنه سُئل عنا فردّ بأن هؤلاء الناس لا يستطيعون أن يدافعوا عن أنفسهم فلا نتكلم فيهم).
وعلى الرغم من عدم ثقتي كثيرا بهذه الرواية، إلا أننا لو قلنا بصدقها، فإن الراحل القصيبي -رحمه الله- جانبه الصواب، وفارقته الحكمة، إذ إن الحديث عن هؤلاء الأشخاص ليس لذواتهم، أو لتبييض صفحاتهم أو تسويدها، بل للفكر الذين هم منبعه، ومصدره، ومُصدِّروه، فالامتناع عن الحديث عن فكرهم امتناع عن الانحياز للوطن في حقيقة الأمر، وامتناع عن بيان خطرهم الداهم على الوطن، وأبناء الوطن، ومقدرات الوطن، ويدرك كل معاصر أو متتبع للأحداث أو حتى مراقب لها، أننا من بدايات أزمة الخليج الثانية وحتى عهد قريب، والبلد في شد وجذب مع التطرف والإرهاب، بسبب الصحوة والصحويين وإسلامهم السياسي، وهذا ما يجعل الوقوف في وجه هذا الفكر واجبا على كل قادر، وليس من المروءة التخلي عن الوطن في وقت الحاجة، بدعوى أخلاقيات زائفة تُضخِم الأنا وتنفخ الذات.
(المنافرة الثقافية بين القصيبي والصحويين)
المنافرة الثقافية للقصيبي بدأت حينما كتب القصيبي عدة مقالات في صحيفة الشرق الأوسط من خلال زاويته الشهيرة (في عين العاصفة)، وكانت ردًّا على مجموعة محاضرات وخطب انتشرت (كاسيتيا) بين الناس، عن أزمة الخليج الثانية، تنتقد الحل الحكومي بالاستعانة بالدول الصديقة لرد الغزو العراقي الغاشم على دولة الكويت الشقيقة، ورأى القصيبي أن عليه واجبا وطنيا نبيلا في بيان خطأ هؤلاء وخطرهم، فأعمل قلمه كالمشرط لتشريح وتفكيك هذا الخطاب السياسي الجديد الذي لم يعهده المشهد الثقافي السعودي، وهذا ما أدى إلى إثارة الدبابير في عشها، فأجلبوا عليه بقضهم وقضيضهم من كل ناحية، فبدأ سلسلة الهجوم الدكتور عائض القرني في خطبة بعنوان: (سهام في عين العاصفة)، ثم ألقى الدكتور ناصر العمر محاضرة بعنوان: (السكينة، السكينة)، ثم ألقى سلمان العودة محاضرة بعنوان: (الشريط الإسلامي، ما له وما عليه)، تضمنت عدة ردود وعلى عدة مستويات، أهمها ردّه على مقالة القصيبي (يوميات كاسيت)، فقام القصيبي بالرد على كلّ واحد من هؤلاء برسالة خاصة، الأولى بعنوان: (يا أخي ناصر العمر اتقِّ الله)، والثانية بعنوان: (يا أخي عائض القرني، الله الله في دماء المسلمين)، والثالثة بعنوان: (يا أخي سلمان العودة، اعذرنا، لا مكانَ لولاية الفقيه عندنا)، وجَمَع هذه الرسائل، ونشرها في كتاب بعنوان: (حتى لا تكون فتنة)، يزيد على 200 صفحة، ويركز على ثلاثة محاور رئيسة هي:
تحذير الدولة من الفقهاء السياسيين، والذين يسعون إلى تأليب المجتمع على الدولة.
كشف غرض هؤلاء الدعاة.
الدفاع عن ذاته وعن اتهامه بالعلمانية.
ولم يقف الحد بالصحويين عند الكاسيت فحسب، بل اتبعوا رد القصيبي المكتوب بردود مكتوبة، ولعل أبرز تلك الردود، ردان:
(رسالة الإصلاح)، لعبدالرحمن بن عبدالله الجبرين.
(العلمانية في العراء، القصيبي شاعر الأمس وواعظ اليوم)، والذي حوى ثلاث رسائل، طبعت مستقلة، ثم جمعت في هذا الكتاب، الذي أشرف عليه الدكتور وليد الطويرقي، وكانت الرسالة الأولى له، وحملت عنوان الكتاب، والثانية للدكتور محمد سعيد القحطاني، بعنوان: (ويكون الدين كله لله)، والثالثة للدكتور سعيد الزغير، بعنوان: (مغالطات القصيبي)، ويذكر الناشر أنه نشر هذه الرسائل دون إذن من أصحابها.
هذه واحدة من تنمرات الصحوة، على من قال أرى ما لا ترون، ولنا عودة مع معركتهم مع الحداثة، ورواية من العمق، قد يكون فيها جديد.