البرامج التلفازية والأفلام والمسلسلات التي تبثّ عبر الإنترنت على وسائل مثل BBC IPLAYER في بريطانيا، وNollywood iROKOtv في نيجيريا، وHulu في أميركا، وشاهد.نت في العالم العربي شكّلت ظاهرة إعلامية جديدة. كل تلك الوسائل التي تنقل محتويات تلفزيونية وسينمائية عبر الإنترنت تشكّل قوة ناشئة، ومعدلات استهلاكها ونموها تزيد بشكل مستمر حول العالم. والهدف من وجودها جميعا هو عدم ترك ساحة الإنترنت العالمية خالية لصانعي محتوى رقميين عمالقة مثل «نتفلكس» و«أمازون برايم». لهذه الوسائل الإعلامية الحديثة تأثيرات على الجمهور وعلى الصناعات الإعلامية في المجتمعات المعاصرة. لا نبالغ إن قلنا إن «نتفلكس» -على سبيل المثال لا الحصر- قد أصبح بحد ذاته عاملا من العوامل التي تحكم كيفية صنع وتوزيع الأفلام والبرامج التلفزيونية اليوم. وحدوث نوع من الاشتباك بين شركات الإعلام التقليدية ووسائل الإنترنت الناقلة أو المنتجة للمحتويات المتلفزة أو السينمائية أمر غير مستبعد.
تتمتع الوسائل الرقمية الإعلامية بمزايا لا يمتلكها الإعلام التقليدي مما يجعل المنافسة بينهما مجحفة، فمثلا تتمتع وسائل الإعلام الرقمية بمعرفة الخوارزميات المتعلقة بالجماهير، والتي بدورها تعطي صانعي المحتوى الرقميين معلومات عن الجماهير بعضها حساسة ومهمة وبعضها خاصة، وجميع هذه المعلومات قابلة للاستخدام لتحقيق أغراض تسويقية وترويجية تستفيد منها جهات مثل «نتفلكس» وغيره. تختلف التلفزة عبر الإنترنت أيضا في كونها عرضة أكثر للقرصنة مقارنة بالمحتويات الحصرية للتلفاز التقليدي، وإضافة لذلك فهي لا تحتاج للتعامل مع معلنين فلها طرق حديثة ومختلفة في تأمين تمويلها وزيادة أرباحها واستدامة عملها.
الجدير بالذكر أن ما نشهده من تغير قد يبدو للبعض مفاجئا فيما يتعلق بتلفزة الإنترنت ونقل محتوياته رقميا، إلا أن النظريات الإعلامية الرصينة سبق وتنبأت بمجريات هذا الأمر. على سبيل المثال الباحث والفيلسوف الفرنسي الشهير «ميشيل دي سيرتو» وضع في منتصف الثمانينات إطارا مفاهيميا مفيدا اعتبر فيه البث عبر الإنترنت كممارسة ثقافية تتحدى من الناحية التكتيكية الاستهلاك التلفزيوني جماهيريا، تماما كما يشكّل «نتفلكس» تحديا تكتيكيا وهيكليا لوسائل الإعلام التقليدية المنافسة.
وكتب «ميشيل دي سيرتو» أيضا عن أزمة في الهوية تنشأ نتيجة لتحدي الاستهلاك الجماهيري السائد للتلفاز، أي أن التغير الكبير في طريقة استهلاك والوصول للإعلام لها ارتباط بشكل أو بآخر بالهوية. من هناك يمكننا القول إنه بدأ التنظير حول اشتباك بين الإعلام التقليدي والرقمي الذي يبثّ عبر الإنترنت.
إن النقاش حول مدى قابلية التلفاز للبقاء في وقت رقمنة محتوياته هو سؤال يتطلب دمجا إلى حد كبير بين الدراسات الإعلامية للجماهير، التي تتماشى بشكل وثيق مع دراسات علم النفس وعلم الاجتماع. إن التنبؤات بتغيرات تطرأ على الهوية الاجتماعية للجماهير بسبب التغيرات المتسارعة إعلاميا شكّلت نوعا من القلق والذعر لبعض الباحثين والعاملين في الإعلام. هناك من وصف المزايا التي تتمتع بها مواقع مثل «نتفلكس» و«أمازون» وقدرتها على قراءة أذهان المتلقين، والتنبؤ برغباتهم بفضل الخوارزم أمر خطير قد يؤدي للإفراط في الاستهلاك الإعلامي، الإفراط في الشراء، أو ربما يؤدي للشعور بالوحدة والاكتئاب.
عندما يتابع المشاهد المحتويات الرقمية بكثافة مفرطة، قد يبدأ في إهمال عمله وعلاقاته مع الآخرين، حيث إنه على الرغم من أن الناس يعرفون أنه لا يجب عليهم قضاء عدة ساعات لمشاهدة مسلسل على الإنترنت إلا أنهم يجدون صعوبة مقاومة الرغبة في مشاهدة الحلقات باستمرار، خصوصا وأنها متاحة بضغطة زر. من وجهة نظر تسويقية وتجارية فإن محطات التلفاز التقليدي تقاوم بشكل ممتاز عندما تصنع لها حضورا رقميا وتفتح لها مواقع تصل عبرها للجمهور الجديد والرقمي بطبعه، ومن وجهة نظر تسويقية وتجارية فإن المحطات الرقمية مثل «نتفلكس» و«امازون برايم» تتناول كل ماهو أمامها من جماهير بشكل يجعلها رابحة أكثر، نعم لكن قد يضيق الخناق على منافسها التقليدي عندما يحضر رقميا. على سبيل المثال، عندما يشتري «نتفلكس» محتوى تلفزيونيا ويحتكر حقوقه.
أما من وجهة نظر سيكولوجية واجتماعية فإن هذا التحدي الذي يشكّله الإعلام الجديد على نظيره القديم، بكل ما فيه من تكتيكات وإستراتيجيات لاستهداف الجماهير، ستكون له عواقب على حيوات الجماهير الشخصية، الذين كما يبدو، ينظر لهم كأدوات ربح يتسابق عليها صانعو المحتوى. هناك بالطبع، حلقة تشريعية مفقودة قد تحلّ الأزمة وتخفف كثيرا من حدة عواقب هذا الأمر، وبما أن التلفزة عبر الإنترنت ممارسة عالمية فإن أي تشريع يتعلق بحل إشكاليتها على الجماهير من نواح اجتماعية وسيكولوجية يفترض أن يكون بأبعاد عالمية.