أتابع هذه الأيام انقسام المجتمع إلى فئات، تعتقد كل منها أن الحق كله معها في موضوع هروب الفتيات. فئة تلوم الإعلام والمحرضين، وتعدّ الفتيات ضحية للتغرير. وفئة تلوم التشديد والقيود المفروضة على الفتيات، وتصب جام غضبها على العادات والتقاليد وبعض الأنظمة.
في المقابل كذلك، انقسم المؤثرون إلى فئات مختلفة، ولكل منها جمهور ومتابعون ومؤيدون أو معارضون.
منهم من يلوم الفتيات على هربهن، ويتعرض لأخلاقهن بلا واعز من أدب، أو وازع من الوقوع في الأعراض المعصومة، بل ويتوعدهن بالفشل والضياع. ومنهم من يلومهن ثم يرقّ قلبه لهن ويخاطب عاطفتهن، حاثا إياهن على مراجعة أفكارهن والعودة إلى الوطن، وآخر يلوم الأهالي بالجملة على لجوء الفتيات إلى الهرب دون تثبت أو دليل ولا مروءة.
ثم انتقل النقاش إلى معاتبة الفتيات على جهلهن بحقوقهن، وعدم إدراكهن الوسائل النظامية المتعددة والمنصوص عليها، والتي يمكن خلالها للفتيات أن يصلن إلى حقوقهن البسيطة، والمتمثلة في العلاج والدراسة والوظيفة والتنقل داخل الوطن، بل وحتى الزواج في حال العضل، وكأن توعيتهن بهذه الوسائل هي الحل السحري ومصباح علاء الدين لمشكلة الإفراط في استخدام السلطة الوالدية، أو معضلة غياب الوعي في التعامل مع احتياج النشء من الأبناء ككل، والبنات خصوصا، لفضاء أسري داعم وآمن.
الحقيقة، أن الفتيات يرين ويسمعن ويراقبن ما يحدث لمن تبلِّغ عن معنّفها، وكيف يطلب منها العودة إليه وعدم الخروج عن رأيه، ويتناقلن فيما بينهن مقاطع لما يحدث في بعض دور الرعاية أو الحماية من الإيذاء.
كما يقرأن عن بقاء السجينات في السجن للأبد، في حال رفض وليُّهن استلامهن بعد انتهاء محكومياتهن!
وهنا، أتساءل: هل غابت فكرة لحظة الوعي بالذات ورغبة المغبون في الانتقام عن بال الجميع؟، هل يكفي أن نصف الحالات بأنها حالات فردية شاذة، ونغض الطرف عن اختلاف هذا الجيل عمّن سبقوه، وبالتالي استحالة إدارته بالطريقة نفسها المتبعة سابقا؟، هل نحن نسهم -بشكل ما- في دفع من يعنينا أمرهم لحافة تدمير الذات في رحلة بحثهم عن الذات؟.
يقول أحد علماء النفس، إن ردة الفعل غير الطبيعية للضغوط غير الطبيعية هي استجابة طبيعية، وأنا هنا لا أبرر هرب الفتيات أو حتى الفتيان تحت تأثير الضغوطات، لكن قصص الهاربين إلى المجهول في الواقع تتنامى أمام أعيننا، ولن نسيطر عليه بمزيد من القيود، أو بالاستمرار في الإنكار، بل بالمكاشفة الواعية والنقاش الصريح.
يستحق مجتمعنا وقفة إنصاف نسمع فيها صوت العقل، ونخاطب فيها أنفسنا خطابا منطقيا يطرح القضية والحلول، ويشخّص فيها الداء والدواء دون انتقاص لأي مطلب مهما بدا لنا بدهيًا، ودون استعراض للرفاهية التي نالت بعض السيدات حظهن منها، فأكملن دراستهن وازدهرت أصواتهن برعاية الرجال القريبين منهن، ثم وقفن على برج افتراضي ليطلبن من المحرومات من الحياة التروي والتفكير، ويسخرن من محاولاتهن اليائسة التي قادتهن إلى المجهول.
وأود صراحةً أن أقول لكل متباهية بما تحقق لها، إن نجاحها لم يكن ليتم لولا رضا ولي أمرها ومباركته، وهذا لحسن حظها فقط، وليس اجتهادا شخصيا منها، فتحلّي -أرجوك- بقليل من التعاطف مع غيرك لأن التعليم والوظيفة -داخل الوطن- لا يزالان حلما لبعض الفتيات في بعض الأسر، حتى مع كل التسهيلات والضوابط المقدمة من الدولة مشكورة.
فغالبية الفتيات في البيئات محل الشكوى لا يمتلكن صوتا، ويتفادين المواجهة غير المتكافئة التي تضع إحداهن في كفة، والأسرة والمجتمع والأنظمة في كفة أخرى.
هل هذا يعني تشجيع التمرد؟ لا، بل يعني أن نوقف الأسباب الداعية أصلا إلى التفكير في التمرد، بمنح كل إنسان فرصته المشروعة في رسم خارطة حياته كما يشاء، حسب استطاعته وقدرته، إلا إذا تجاوز ما ينصّ عليه الشرع أو يمنعه القانون، وهذا ما تكرره القيادة وتشجع عليه.
ثم إن علينا أيضا أن نعيد تعريف المفاهيم التي نتداولها ونمررها لأبنائنا وبناتنا عاجلا، وذلك بعد أن نثقف أنفسنا حولها، ونحدّث معلوماتنا لتناسب العالم الصغير الذي نعيش فيه الآن مع كل سكان الكوكب الأزرق.
علينا مراجعة فهمنا للعنف والإهمال الأسري، أو حقوق وواجبات كلٍّ من الوالدين والأبناء، ليمكننا توفير الحياة التي يتمناها أبناؤنا.
فالأسرة هي درع الوقاية وخط الدفاع الأول. عُودُوا إلى بيوتكم وتكلموا مع بناتكم وأبنائكم، ولا تقصّروا في الحديث معهم، لا الحديث إليهم، فالفرق بينهما كبير جدا. حاوروهم، بل وأسرفوا في الحديث والاستماع والاحتواء والحب، وشاركوهم رسم أحلامهم وصياغة مستقبلهم. امنحوهم أسبابا ليبقوا، وسقفا آمنا يمكنهم التفكير والتعبير تحته، ولن يفكروا أبدا في الرحيل أو الهروب غير مأمون العواقب، إلى مصير يكتنفه الغموض.