لنبدأ بسؤال فلسفي في حد ذاته: لماذا نحتاج أن نعلم الأطفال الفلسفة؟ للنظر إلى الفلسفة من بين أمور أخرى على أنها تحقيق ذاتي في معنى المفاهيم المحيرة والمتضاربة. كانت الفلسفة -يوما- تعدّ أنها البحث عن الحكمة، والتفكير في كثير من المفاهيم والأسئلة التي ما زلنا في وقتنا المعاصر نفكر فيها، مثل: ما الجَمال؟ كيف يمكن التأكد مما نعرفه؟ ما التصرف الصحيح الذي يجب اتخاذه؟ هنا، الفلسفة تساعدنا على التعرف على المشكلات والإمكانات الأخلاقية في تجاربنا الحياتية، والتفكير فيها بعناية، ثم كيفية إصدار الأحكام الأخلاقية السليمة، والانتهاء باتخاذ الإجراءات المناسبة.
ومن هذا المنطلق، نتفهم كيف أن فلسفة الأطفال لا تشير إلى فلسفة تعليم الأطفال المعلومات التقليدية، مثل أفكار الفلاسفة من هيراقليطس إلى أفلاطون إلى ديكارت إلى سبينوزا ولايبنتز وكانط وشوبنهاور، وغيرهم، بل هي طريقة تم تطويرها من المربي والفيلسوف ماثيو ليبمان في بداية سبعينات القرن الماضي، إذ تركز على تدريس مهارات التفكير، والقدرة على التساؤل، واستخدام المنطق، وهذا نهج قائم على الطالب، إذ يعتمد على الاستقصاء من أجل التعلم. بمعنى آخر، التركيز على مهارات التفكير الفلسفي للتوصل إلى الحكمة والاستقلالية في التكفير.
لقد جاء قرار ماثيو ليبمان تعليم الفلسفة للأطفال؛ وبالمناسبة هو برنامج يمتد من المرحلة الابتدائية إلى المرحلة الثانوية، خلال خبرته أستاذا في جامعة كولومبيا، إذ لاحظ تدني مهارات التفكير المنطقي لدى طلاب الجامعة، منطلقا من إيمانه بأن الأطفال يمتلكون القدرة على التفكير بصورة مجردة منذ سن مبكرة، وعليه قرّر أن تعليم المنطق للأطفال في وقت مبكر من شأنه أن يساعدهم على تحسين مهاراتهم في التفكير في حينه، وليمتد تأثيره إلى المراحل الباقية مع التطور في كل منها.
في برنامج تعليم الفلسفة للأطفال، يتم إعطاء مجموعة من الأطفال حافزا، مثل قصة أو مشكلة علمية، ويطلب منهم طرح أسئلة حول أي شيء إشكالي أو محيّر أو مثير للاهتمام، وبالتالي يتم تحديد إطار «الاستقصاء»، ثم تقوم المجموعة بتجميعها بصوت عال، خلال طرح الأفكار والاستجابة إلى أفكار الآخرين والبناء عليها، وإثارة مزيد من الأسئلة حتى تكون راضية عن الطريقة التي تعاملت بها مع المشكلة. فيطلب منهم التأمل في الإجابات التي تنشأ خلال العملية، ويعدّ محتوى المناقشة أقل أهمية من جودة المنطق، كما يتمثل دور المعلم في تطوير مستوى أعلى من التفكير، وذلك خلال استخدام الأسئلة التوجيهية، على سبيل المثال: تشجيع استخدام الأمثلة والأسباب والمعايير.
في البدء قام ليبمان بالتجربة خلال إنشاء منهج يعتمد على رواية فلسفية للأطفال كتبها بنفسه، ويتناول الكتاب مواقف يومية تواجهها مجموعة من الأطفال، ثم تصبح هذه المواقف جوهر المشاركة العقلية والتفكير في التفكير، لا يتم فيها البحث عن إجابات، بل التركيز يكون على نوع التفكير، أي تقوم القصص بتشجيعهم على طرح الأسئلة الفلسفية في الرد، إذ يعمل المعلم وسيطا ومسؤولا مشاركا في عملية التفكير، وتعتمد الدروس على الحوار القائم مع التلاميذ الذين يجلسون عادة في دائرة، ويتناوبون في اقتراح الحلول، والتعبير عن الآراء، وتقديم الحجج والحجج المضادة، وتقديم أمثلة، وبناء معايير، والبناء على أفكار بعضهم، بهدف التوصل إلى تسوية بشأن الأسئلة الفلسفية الأولية التي حفزت الحوار. وهذا النشاط يتصاعد في الصعوبة تدريجيا، وعلى مدى امتداد أسابيع البرنامج، ويسهم في تنمية قدرات الأطفال النقدية، وتعلمهم خلال ذلك مهارات، مثل: قوة الملاحظة، وفن الإنصات، وأهمية اختيار المفردات المحورية لإثبات وجهة النظر، كما تعلمهم كيفية المشاركة في حلقات النقاش: بناء الثقة بين أعضاء الفريق، واحترام آراء الآخرين مع الاحتفاظ بحق الاختلاف.
بمعنى آخر تعلمهم التأمل، وفن الإنصات، واستخدام قوانين المنطق في التفكير، والعمل بروح الفريق.
أسس ليبمان معهد النهوض بالفلسفة من أجل الأطفال في جامعة مونتكلير الحكومية عام 1974، ومنها انطلق إلى جميع أنحاء الولايات المتحدة، وحصل على دعم من وزارة التعليم، ثم تعدى الحدود إلى العالمية، ويطبق اليوم في أكثر من 60 دولة، منها عربية مع تغييرات بسيطة في طرق العرض والمصادر، بل أصبحت كثيرٌ من الجامعات تدرب الطلاب -خاصة في كليات الفلسفة والتربية- على النزول إلى المدارس وتطبيق البرنامج، أو تدريب المدرسين على ذلك. وأصبحت هناك دوريات ومجلات متخصصة، وأندية، ومسابقات محلية، مثل التي تجريها أستراليا على مستوى الدولة.
والذي يهمنا هنا في هذا الموضوع، أن وزارة التعليم قررت تدريس هذه المادة كمادة إثرائية تحت مسمى «مهارات التفكير الناقد والفلسفة»، على سبيل التجريب في المملكة، وفي مدارس محددة، إذ تم تأهيل أكثر من 200 معلم ومعلمة للمرحلة الثانوية من مختلف مناطق المملكة، كي يتولوا مهمة تدريس هذه المهارات في مدارسهم، وبعد استلام التغذية الراجعة من هذه التجربة، سيتم التعرف على مدى التأثير والتحديات التي قد تواجه تطبيق البرنامج، ثم تطبيقه على جميع المدارس، علما بأنه سيتم التوسع لاحقا في جميع المراحل الدراسية، والهدف الأساسي من تطبيق البرنامج بالنسبة للطلاب والطالبات هو: «اكتساب مهارات التفكير الناقد، وتنمية مهاراتهم في طرح الأسئلة، ومعالجة المفاهيم، والبناء المنطقي للحجج، عبر الممارسات البنّاءة للحوار، والاحترام للتنوع والتعاطف مع تجارب الآخرين، وكذلك الفهم الضروري لكيفية استخدام العقل والمنطق في حل الخلافات، وتحمل المسؤولية أكبر في التعلم الذاتي مدى الحياة، مما يسهم بفاعلية في تحقيق أهداف برنامج تعزيز الشخصية السعودية».
وكنت أتمنى ممن اعترضوا أو شككوا في نجاح البرنامج، أن يتواصلوا مع الوزارة للتعرف أكثر على أهداف البرنامج، أو يطلعوا على الكتب وكيفية تطبيقها من المعلمين، أو على التجهيزات من ورش العمل التدريبية التي تمت للمعلمين والمعلمات، وليتهم تواصلوا مع هؤلاء المعلمين، على الأقل، كانوا سيتعرفون -ولو بشكل مبدئي- على محاور وأهداف البرنامج.
حقًّا، كيف نحكم دون أن نطّلع على البرنامج كاملا: من كتاب الطالب، وكتاب المعلم، وكتاب الأسرة، وكتاب تدريب المعلم؟! وعلى كل حال هذا ما نأمل أن يعالجه البرنامج مع شباب المستقبل، من مهارات البحث والتقصي والرجوع إلى الأساس من المعلومات التي تدعم أو تعارض، ثم التوصل إلى الحكم الصحيح المبني على الفكر، وليس بالتشكيك والاتهامات المسبقة.