قبل عدة أسابيع، أرسل إليّ أستاذ العقيدة بجامعة حائل، الصديق الدكتور أحمد الرضيمان -هو بالمناسبة زميلي ضمن كُتّاب الرأي هنا في «الوطن»-
الرسالة التالية عبر تطبيق «واتساب» والتي عنونها «استنباط بديع لابن تيمية»:
قول الله تعالى: (سآوي إلى جبل يعصمني من الماء). هذا عقل.
وقوله سبحانه (لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم ). هذا وحي.
وقوله جل جلاله (وحال بينهما الموج فكان من المغرقين). هذه نتيجة.
فمن قدم عقله على الكتاب والسنة، غرق في بحور الأهواء والبدع، ومن تعوّد معارضة الشرع بالعقل لا يستقر في قلبه إيمان.
فقلت له مستعينا بالله: الإنسان بلا عقل خارج نطاق التكليف، ولا يُعقل أن يوحى لغير عاقل يا صديقي.
فرد بقوله: صحيح، غير العاقل مجنون، ولكن المقصود أن العقل تابع للنقل.
توقفت كثيرا عند المقصود الذي وصل إليه صديقي «العقل تابع للنقل»، فقلت: يستحيل أن تكون هذه المعادلة متوازنة!.
فإن كان ذلك صحيحا، فما حاجتنا إلى العقل إذن، ولماذا زوّدنا الله به، طالما أن النقل سيكون أولا وحاكما على كل شيء!.
ثم إن إعمال العقل لا يعني معارضة الشرع بالضرورة، وقبلا يفترض أن نُعرّف مصطلح الشرع، ونثبت حقيقة ما فيه، وإلا لكان كل تصرف نقوم به وقول نطلقه، شرعا.
فأرسل الدكتور أحمد تسجيلا طويلا، مقصده ثبات الشرع وواحديته، ونقد تنوع العقول من باب تضعيف قدراته -كما فهمتها- إلا أنه اختلف مع الأشاعرة في إلغائهم العقل، ومع المعتزلة في تقديرهم قوة العقل وتقديمه.
فقلت: لو كان العقل موحَّدا لما حدث الإبداع، ولفقدنا الإحساس بالتنوع، ولكن الفردانية «للعقل» هي عبقرية الخلق أساسا، فتخيل أن نكون نسخا موحدة، ولو كان ذلك صحيحا فإنه يعني عدم حاجتنا للأنبياء والرسل.
نحن نحتاج العقل لإدراك الشرع، وهما يكملان بعضهما عند المؤمن، من وجهة نظري.
فرد بقوله: لم أقل نحتاج عقلا موحدا، وإنما أوردت هذا الإيراد لبيان أنه لا يمكن أن يكون حجة لأحد، لأن العقول متفاوتة، الثابت هو الكتاب والسنة، ولذلك هما المتبوعان، والعقل تابع لهما، أما أننا نحتاج العقل والنقل فهذا لا شك فيه، ومن لا عقل له مرفوع عنه القلم». الواقع، لا توجد صفة مادية ملموسة لما يطلق عليه العقل، ولكن المصطلح الشائع يستعمل لوصف الوظائف العليا للدماغ البشري وأقسامه، وهي التي يكون فيها الإنسان واعيا بشكل شخصي، كالتفكير والجدل والذاكرة والذكاء والتحليل والإدراك، وهو مصطلح متعلق بالبشر فقط.
ومن المعاني، أن العقل هو ما يقابل الغريزة، التي لا اختيار لها. ومنه قولهم: «الإنسان حيوان عاقل»، ومنها ما يكون به التفكير والاستدلال، وتركيب التصورات والتصديقات. كما أن من المعاني الواردة حول موضوع العقل، أنه ما يتميز به الحسن من القبيح، والخير من الشر، والحق من الباطل.
من هذه الرؤية التعريفية المقاربة للعقل، نستطيع إدراك أهمية أن يكون العقل قائدا لعملية النظر والفحص والاستقراء، لا تابعا لمجموع النقل بكليته، بل ويفترض أن نأخذ به معيارا ثالثا بعد القرآن وسيرة الرسول -صلى الله عليه وسلم- للحكم على المنقول عندنا كمسلمين فيما يختص بالشرع، وتقييم متون المنقولات وظواهرها، ولا يمنع ذلك من التقائهما وتقاطعهما في كثير من مسائل الشرع التي اختلف عليها فقهاء الماضي.
فالفكر يتغير بتغير المعطيات، والعقل هو الرهان الذي يمكن الاتكاء والتعويل عليه لمرافقة الإنسان، وفهم كثير من الإشكالات النصية في المنقولات التي تعدّ «ظنية الثبوت».
الحديث عن العقل والنقل والشرع قديم ومتصل، منذ أكثر من 13 قرنا، وقد قدّم فيه فقهاء المسلمون كثيرا من الحوارات الثرية، ولن ينقطع ذلك اليوم أو غدا، لاستمرار التغير في الزمن والماديات والثقافة والفكر.
لذا، فإن محاولات العثور على الطريق ستظل قائمة في كل زمان ومكان.