يوم كان يدور حديث حول جَمْع مواد اللغة العربية في كتاب واحد، السبب الذي كان يدفع المسؤولين عن المنهاج الدراسي للغة العربية آنذاك، كان الرغبة في تحقيق ما يسمى شمولية اللغة العربية كمنهاج موحد؛ كنت أنا أتوقع أن تبقى مادة التعبير «منفصلة» وذلك لأهميتها كنشاط لغوي مسؤول عن مهارة الحديث والكتابة معا، فهي مادة تحتوي على اللغة «تعبيرا وإملاء، خطا ومطالعة، ومحفوظات كذلك»، وتبدو فيها مساحة كبيرة قادرة على استيعاب خيالات الطالب، وقدرته على الإبداع اللغوي، وأستطيعُ أن أقول إنها المادة التي صنعت بدايات كثير من الكتاب والأدباء والمثقفين، وشكلت عشقهم للثقافة والكتابة، وأكسبتهم القدرة والمهارة على أن يبدعوا في مجال الكتابة فيما بعد، ويوظفوا من خلالها الكتابة الإنشائية، ذلك الثراء المعرفي والثقافي الذي يكتسبونه من خلال قراءتهم المستمرة في كل موضوع.
ولعلي الآن أستعيد شيئا من الذكريات حول هذه المادة التي كنا «نعشقها» طلابا ومعلمين، فقد كانت حصتها تتيح لنا فرصة التحدث والحوار مع بعضنا بعضا كطلاب، وتعطينا خيارات الكتابة في موضوعات متعددة، إذْ كان المدرسون في ذاك الزمن الجميل يتركون لنا حرية أن نكتب عن رحلة عائلية، أوعن مناسبات اجتماعية، أو أن نقوم بتوجيه رسالة إلى من نحب، أو إلى من تربطنا بهم صلات وعلاقات مثل الكتابة عن أحد الوالدين، وأتذكر أننا كنا نوظف خيالنا رغم صغرنا آنذاك كطلاب ولمحدودية تطور الحياة من حولنا في وقتنا ذاك، الذي لا أقبل من يلومني في الحديث عنه، أو عن الماضي الجميل، لكننا رغم ذلك كنا نسعى إلى تنمية مهاراتنا الكتابية من خلال قراءة القصص، وكنّا نتبادلها مع بعضنا بعضا كزملاء دراسة أو لوجودنا في حي واحد.
أستطيع أن أتذكر أن المجلدات القصصية الكبيرة ذات السلاسل كانت تستحوذ على اهتمامنا، أتذكر منها «الملك سيف بن ذي يزن وعنترة بن شداد»، ومن القصص التي غاب بعضها اليوم وحُرم منها أطفال الزمان الحالي مجلات «سعد، باسم، ماجد»، وقصص مثل «ميكي، سوبرمان الوطواط، ومجلد ميكي الصغير» وقصص «المغامرون الخمسة، والعربي الصغير المرفق بداخل مجلة العربي» التي كانت في عز مجدها وغيرها، فكنا نعشق مادة التعبير لأنها تتيح لنا تفريغ خيالاتنا من تلك القراءات لهذه الوجبات من القصص، بعدما اشتغلنا في التدريس، كان لا يزال عشقنا لهذه الحصة أو المادة «التعبير» ينمو معنا، ولإدراكنا أو إحساسنا بذلك التعلق بها ونحن طلاب، حاولنا كمدرسين أن نجعل طلابنا يشعرون بنفس الشعور الذي كنا نشعر به طلابا، ويتذوقون نفس المتعة التي ذقناها، وأتذكر أني كنت أجعل من تلك الحصة ما يشبه اليوم «مجلس الشورى» أو بلغة أهل السياسة «البرلمان المصغر»، فكان يدور حديث طلابي وحوار ونقاش حول قضايا عدة، ثم أترك في النهاية حرية الكتابة حول موضوع ما، إما موضوع يتم الإجماع عليه، أو أترك الحرية لكل طالب بأن يكتب في موضوع يقوم باختياره.
من جمال ذكرياتي عن تلك المادة أنها كانت تعطيني فرصة كمعلم لأتعرف على الجوانب الخفية والنفسية والاجتماعية والفكرية والبيئية لطلابي، بطبيعة الحال، دون أن أسمح لنفسي بالغوص في خصوصياتهم، لكنها كانت تتيح لي التعرف على مشاكلهم الشخصية، مواقفهم، أحلامهم، تطلعاتهم، أهدافهم، وهذا يكفيني كي أعطي ذلك الأمر أهمية في مساعدتهم للتخلص من مواقف سلبية أو مشكلات أو صعوبات من أجل دفعهم للتغلب عليها، كذلك كنت أستفيد منها في التعرف على شخصياتهم أو ما بدواخلهم من ميول ومواهب وهوايات، كي أستطيع أن أساعدهم بما يكون في مقدوري، وكان أجمل ما تحمله مادة التعبير من أهداف أنها تعطيني فرصة لتزويد طلابي بالقيم والاتجاهات الصحيحة، وهذا أحد أهم أهداف مادة التعبير الرئيسة، مثلما كنا نعمل ونحن نكتب عن حب الوطن، أو عن النظافة، أو عن قيمة الصدق على سبيل المثال.
حقيقة أنا لم أرد الاستغراق في الكتابة عن ذكرياتي هنا كمعلم أو طالب ولست هنا لذلك؛ بقدر ما أردت من إيراد هذه اللمحة السريعة حول ما استدعيته من ذاكرتي عن مادة التعبير، أن أبين جانبا مهما كانت تمثله مادة «التعبير» في حياتنا، خاصة وأنا أختار اليوم الكتابة عنها، متسائلا عن غيابها اليوم، فلم تعد تنال حظها كمادة مهمة، بل لو سألت أحد طلابنا عنها لما عرفها بعضهم!.
مادة التعبير لجمالها، تقوم على أسس نفسية ولغوية وتربوية وتعليمية، أي أنها في غاية الأهمية للطالب والمعلم، من حيث العمل على تناقل الأفكار بين الطلاب أثناء الحوار الذي يدور مسبّقا عن الموضوع الذي يطرحه المعلم عليهم، وكذلك تعطي الطلاب فرصة توظيف قراءاتهم والنصوص التي حفظوها شعرية كانت أم نثرية من حكم وأمثال، وتتيح للمعلم التعرف على شخصيات طلابه، وهي فرصة للتنفيس عن الأفكار، عن المشكلات، عن الظروف التي قد يعيشها الطالب، سواء على صعيده الشخصي أو ما يمر به من أحوال في محيطه، أو في التعبير عن ظروفه الأسرية أو الاجتماعية، وتعطيه المهارة في استعمال المهارات اللغوية كالخط، والنحو، ومهارة الأسلوبية في الكتابة، وطبعا لكل مرحلة دراسية لطلابها قدرات معينة تتناسب مع أعمارهم وعقولهم وقدراتهم بما بلغوه من الرصيد اللغوي.
أتذكر في الختام أنني كتبت مقالة عن «الخط» وتمنيت عودته متسائلا «يا زمان الخط هل لنا من عودة» والحمد لله، حينما نما إلى علمي بأن وزارة التعليم قررت أن تعيد الخط العربي والإملاء إلى التدريس كمادتين مستقلتين، رغم أنهما ضمن مشروع شمولية اللغة العربية، إلا أنهما لم تكونا تحظيان بالعناية من قبل بعض المعلمين، اليوم أتمنى عودة مادة التعبير فهي مادة جديرة بأن تكون مادة مستقلة لما تحمله من أهداف تربوية تعليمية، وأخيرا «يجب أن نؤمن بأن كثيرا من الأفكار القديمة ليست بالية».