كانت العلاقة التاريخية بين الفلسفة والعلم علاقة جدلية على الدوام، بين تجاذب وتنافر وخصام ووئام، فقد كانت الفلسفة ملازمة للعلم في رحلته عبر القرون، عاشا مع بعضهما بعضا وكأنهما موضوع واحد لا حدود بينهما ولا فواصل، وكانت الفيزياء والفلك والرياضيات وعلم النفس كلها منضوية تحت لواء الفلسفة، وهذا يفسر كون الفلاسفة في الماضي علماء كذلك، فكانت كتاباتهم تشتمل على مباحث علمية ومباحث فلسفية على حد سواء.

ولكن اليوم تغير حال هذه العلاقة العتيقة، فالعلم انفرد بالساحة في العصر الحديث، وصار يتبرأ من تاريخه وينفصل عنه لدرجة أن تاريخ العلم لا يشكل جزءا من حاضره، ومن ضمن هذا التاريخ علاقته الوثيقة بالفلسفة في قرون سابقة، فأصبح العلم هو الملك المتوج اليوم، فعصرنا هذا هو عصر طغيان العلم وتطبيقاته وظفرهما الكامل وبلوغهما ذروة القوة والسيطرة، بعدما حققت التقنية حلم الإنسان في السيطرة على الظواهر الطبيعية، فالعلم اليوم مكتف بذاته ولا يطلب المعونة من أي حقول معرفية خارج مناهجه التي تدرس الظواهر بصفتها ظواهر قابلة للرصد والملاحظة، واستخلاص العلاقات والقوانين القابلة للحساب رياضيا، أي كظواهر يمكن التحكم بها والسيطرة عليها وتسخيرها لصالح الإنسان.

حقق العلم وتطبيقاته مكاسب عظيمة وانتصارات هائلة، تمثلت في تحقيقه الرفاهية للإنسان بتقليصه المسافات بين البشر، وتقديمه الدواء لتخفيف الأمراض، وسهلت التواصل والتراسل بين الأفراد، وبفضل التقنية العلمية اكتشف الإنسان مجاهل الكون وأسراره الدفينة، وطوّر الكيمياء البيولوجية، واستطاع من خلالها أن يكتشف أسرار الجسم البشري. وكل هذا دون أن يكون للفلسفة دور حقيقي وواضح في كل هذه المنجزات والانتصارات، مع أن هناك من يصر على الخلط بين التناول الفلسفي والتناول العلمي للظواهر، في محاولة لتغيير طبيعة الفلسفة على نحو يتوافق مع العلم وقواعده ومسلماته ومعادلاته.

وتطبيقات العلم لم يقتصر دورها على مجرد السيطرة على ظواهر الطبيعة بمعزل عن الثقافة والمجتمع، بل كان لها على الدوام دور تفكيكي غير مباشر على القيم المجتمعية والثقافات التقليدية، فالثقافة المصاحبة للتقنية تدخل في صراع مع منظومة القيم التقليدية، بحيث تجعلها على الأقل تشعر بطابعها التقليدي، وتطرح أمامها مجموعة من القيم الجديدة، فالعلم هو المانح الوحيد للتفكير الناقد هنا، وليس للفلسفة أي دور نقدي على القيم المتوارثة، وثقافة الحداثة ذات الطابع العلمي هي التي قدمت للعالم منظومة القيم الحديثة التي قوامها التعدد والتسامح والانفتاح والعقل والتحرر.

كما أن للعلم أدواته فإن له قيمه وثقافته أيضا، وهذه الثقافة عاشت دورها التفكيكي الناقد لكل مظاهر التقليد التي قوامها العرق والنسب وأولوية المقدس والتكرار، وهذه الثقافة العلمية عاشت مع الثقافة التقليدية حالة صراع ورفض ومساومات وتقديم للتسويات والحلول الوسط وتوجيه للاتهامات، وهذا التفكير الناقد الذي يعدّ سمة للثقافة العلمية هو من جعل الثقافة التقليدية تراجع حساباتها عن طريق فتح باب الاجتهاد والتأويل في محاولة للخروج من المأزق التاريخي الذي تسبب به العلم وتطبيقاته.

فكل خرافات الماضي تراجعت بعد أن كشف العلم وجهها القبيح، وهروبا من صولات وجولات العلم لاذت المجتمعات التقليدية كل بثقافته، واحتدمت ردود الفعل وتوزعت مواقف النخبة، وأمام هذا الصخب العنيف يتبادر للذهن السؤال الآتي: ما دور الفلسفة في العصر الحديث؟ وهل لديها ما تقدمه أمام تفرد العلم وتطبيقاته بكل مظاهر التقدم والتحديث التي نعيشها اليوم؟

أمام هذا الواقع الصعب للفلسفة الذي يهدد بالزوال والموت، أعطيت للفلسفة أدوار جديدة أشبه ما تكون بمكافأة نهاية الخدمة، أهم هذه الأدوار دور الرقابة على ما ينتجه العلم للحد من سلبياته، وطرح التساؤل حول قضايا العلم ومنها السؤال عن ماهية العلم وعلاقته بالحضارة والمجتمع الإنساني؟ لا شك أن تقدم أدوات العلم جعل من الحروب بين الأمم أكثر فتكا، فقد زاد التطور التقني من القوة التدميرية للأسلحة، وزاد من كارثية نتائجها، فضلا عن المشكلات والقضايا الشائكة التي تمخضت عن تطور العلم ولم يستطع العلم ضبطها، كقضايا القتل الرحيم والاستنساخ والتلقيح الاصطناعي والإجهاض، إضافة إلى مشكلات جديدة تتمثل في التلوث البيئي والتسبب في خلل توازن البيئة، وكلها قضايا أقلقت البشرية ووضعت مستقبل عيش الإنسان على كوكب الأرض على المحك، والعلم لا يملك الأدوات الكفيلة بضبط تداعياتها على كوكب الأرض. وأمام هذه القضايا الشائكة برزت حاجة جديدة للفلسفة لم يقتصر على دور الرقيب، بل تعداه إلى إظهار حاجة العلم إليها، وهكذا استخرجت الفلسفة من متحفها بعد أن كسيت بثياب جديدة وأعطيت مهام أعادت لها مكانتها المسلوبة.