كما هو متوقع، لم تستطع ميليشيات الحوثيين الانقلابية الارتقاء بطريقة تفكيرها وأسلوب تعاطيها مع الأحداث، والتعامل مع الواقع اليمني بما يستحقه من أهمية، ولم تمتلك القدرة على الإيفاء بتنفيذ البنود التي أقرّت بها وقبلتها عند توقيعها اتفاق السويد، كما تنصلت عن كل تعهداتها والتزاماتها، وتنصلت عن الاتفاق الذي وقّعت عليه أمام العالم أجمع، إلا أنها -كعادتها- رفضت تحويله إلى واقع، حسب الجدول الزمني الموضوع مسبقا، والذي ارتضى به الطرفان كأساس يمهد لإيجاد حل نهائي ودائم للأزمة في اليمن.
وليس في كل ذلك عجب أو مصدر دهشة، لأن هذه الميليشيات لم يُعهد عنها القدرة على النظر إلى الأمور بمنظور المنطق والعقل، أو تغليب المصلحة العليا والتجاوز عما دونها، بل ظلت -منذ نشأتها- مجرد أداة تستخدمها حكومة الملالي في إيران، وحزب الله اللبناني، لتنفيذ أجندة مذهبية خارجية بعيدة كل البعد عن مصلحة اليمن، فلم تمتلك في يوم قرارها، أو القدرة على اتخاذ ما تراه صائبا، بل ظلت تدور في فلك العمالة والخيانة الذي ينسجم تماما مع كل تصرفاتها.
ويعلم الجميع أن الاتفاق الذي تم التوصل إليه في السويد، يقضي بدايةً بتنفيذ اتفاق تبادل الأسرى بين الجانبين، وتم تقديم قوائم رسمية بأسماء المعتقلين، توافق عليها الطرفان، وأقرهما المبعوث الأممي مارتن جريفيث، ووضع جدولا زمنيا للتنفيذ، لكن بمجرد عودة وفدي التفاوض من ستوكهولم، بدأ قادة التمرد في إطلاق تصريحات استباقية تشير إلى استحالة تنفيذ الاتفاق، عبر التشكيك في صحة القوائم الحكومية، والادعاء بأن بعض الأسماء مكررة، أو أن كثيرا من الذين وردت أسماؤهم في القوائم غير موجودين في سجون التمرد. وهذه كلها نتيجة متوقعة، حذّر منها معظم المراقبين السياسيين، إدراكا منهم بأن الكلمة النهائية ليست في أيدي الحوثيين، بل ينتظرونها من طهران التي لا تريد بطبيعة الحال للأوضاع في اليمن أن تستقر، وتعمل على بقاء الأمور على ما هي عليه، لاستغلالها كورقة مساومة وأداة ضغط سياسي، للحصول على مكاسب في ملفات أخرى.
كذلك مثَّلت قضية ميناء الحديدة حجر الزاوية في مفاوضات السويد، للأهمية البالغة التي يمثلها بوصفه الشريان الرئيس الذي يمكن عن طريقه إدخال المساعدات الإنسانية للشعب اليمني، فتم التوافق على تسليم الميناء للأمم المتحدة، وفق آلية محددة وإجراءات متفق عليها، وعندما حان أوان التنفيذ فاجأ المتمردون العالم أجمع بخدعة ساذجة لا يمكن أن تنطلي إلا على أمثالهم من البسطاء ومحدودي الأفق، عندما استبدلوا الزي الذي كان ترتديه عناصر ميليشياتهم بزيّ آخر، وزعموا أن تلك القوات هي التي ستتولى حفظ الأمن في الميناء، وهو التصرف الذي رفضه جريفيث بقوة، مشيرا إلى أن من شأن تلك الخطوة أن تنسف الاتفاق من جذوره تماما.
الآن، عاد الانقلابيون إلى استخدام ورقة الضغط التي ظلوا يلعبون بها طويلا، وهي الأزمة الإنسانية، إذ منعوا دخول العشرات من السفن المحملة بالمساعدات الغذائية والطبية والمشتقات النفطية، وصادروا معظمها، بل إن قلة درايتهم السياسية، وعدم إحساسهم بالمسؤولية دفعاهم إلى قصف مخازن برنامج الغذاء العالمي وإحراقه، على مرأى ومسمع من العالم، إذ بثت الفضائيات مشهد المواد الغذائية وهي تحترق، في الوقت الذي يبكي فيه الأطفال والشيوخ جوعا.
لكل ما سبق، على المبعوث الدولي مارتن جريفيث التوقف فورا عن التعامل مع الحوثيين بالطريقة التي يتعامل بها حاليا، والكف عن أسلوب اللين والمهادنة، واللجوء إلى رفع عصا العقوبات. فالتجارب السابقة كلها تكشف أن ذلك هو الأسلوب الوحيد الذي يجدي مع أولئك الخارجين على القانون، وهو وحده الكفيل بردعهم وإرغامهم على التعاطي الإيجابي مع رغبات وتوجهات المجتمع الدولي، وله في تجارب سلفَيْه: جمال بنعمر وإسماعيل ولد الشيخ أحمد، عبرة وعظة، فقد تعاملا بالأسلوب نفسه في السابق، ولم يحصدا في النهاية غير الفشل الذريع.
لذلك، فالمطلوب من مبعوث الأمم المتحدة عدم التعاطف مع الحوثيين وانتحال الأعذار لهم، أو البحث عن تبريرات وهمية لتجاوزاتهم، وإذا أراد لمهمته أن تنجح فعليه التوجه فورا إلى مجلس الأمن الدولي، وتقديم تقرير شامل وواف عن سير تنفيذ الاتفاق، والعمل على استصدار قرار بموجب البند السابع، يتيح للدول الأعضاء استخدام القوة فورا، لفرض تنفيذ قرارات المجتمع الدولي، ولا أحسب أن المجلس بحاجة إلى تقديم قرار جديد، بل يمكن تفعيل القرار السابق رقم 2216 الذي صدر بإجماع الأعضاء، ويحمل في طياته السماح باستخدام القوة ضد الطرف المتسبب في استمرار الأزمة الإنسانية.
ومع التقدير التام لمحاولات السيد جريفيث بدفع المتمردين إلى التعاطي الإيجابي مع توجهات المجتمع الدولي، وإقناعهم بالتخلي عن ممارساتهم، ومراعاة متطلبات الوساطة النزيهة بين الطرفين، إلا أن عليه إدراك أن مهمته في التوسط لم يكن من الصائب أن تبدأ من الصفر، وكان عليه أن يستنير بتجارب بنعمر وولد الشيخ، وأن يبدأ من حيث انتهيا، لأن عامل الزمن ليس في صالحه، وكل يوم يمر يحمل في طياته مزيدا من المعاناة للمدنيين الذين ينتظرون بفارغ الصبر نتائج عمله. وعليه أيضا إدراك أن مسؤولية فشل تنفيذ اتفاق ستوكهولم هو وزر سيتحمل جزءا كبيرا منه، وتشاركه في ذلك منظمات المجتمع الدولي، مثل الأمم المتحدة، إذا لم يلجأ فورا إلى تفعيل أدوات الحزم والقوة، ويكفّ عن أساليب المهادنة واللين، فهي لن تجدي فتيلا مع من صموا آذانهم عن آهات المحرومين، وأغلقوا أعينهم حتى لا يروا آثار الدمار الذي تسببوا فيه، بممارساتهم الخاطئة التي تنسجم تماما مع الدور الذي ارتضوا لعبه.