نواجَه في حياتنا بمواقف وتحدّيات، يعتبرها كثيرون منّا ابتلاءات من رب العالمين، نعم، هي كذلك، ولكن لا يمتحننا الله ـ سبحانه ـ دون أن يعطينا الأدوات للمواجهة، وكوننا نستخدمها أو لا نستخدمها فهذا عائد على الفرد ونظرته إلى ذاته وقدراته وإيمانه بما يمتلك. ولكي تتخذ قرارا يجب أن تكون لديك الاستطاعة على أن تقف وحدك، وتقرر أنت ما تريده لذاتك، ولا يمكن أن يكون لك قرار حر أو إرادة شخصية إذا كنت تفكر بعقلية القطيع، وعندها لا توجد ذاتية أو فردية أو حتى حرية!.
كيف نصنع هذه الذاتية وهذه الثقة في نفوس أبنائنا؟ يجب أن نعمل على تنشئة أيّ طفل حسب شخصيته وقدراته، ونعلم جيدا من خلال التجارب التربوية أن ما يصلح لطفل ليس بالضرورة يصلح لآخر، خاصة أن هناك فروقا فردية ليس فقط في القدرات والمهارات، بل أيضا في الاتجاهات والميول، فإن استخدمنا نفس الأسلوب فقد يزدهر أحدهم ويفشل الآخر.
الفردية أمر هام وحيوي، لقد خلق الله كل فرد بشخصية، وكل واحد بروح تختلف عن الأخرى، وكل منا ليس أقل أهمية من الآخر أمام الخالق، لا يفرّق بيننا في الحساب سوى أعمالنا، ولكن مع التحديات تأتي الفرص، ومع الأخطاء يأتي الاستغفار، دورنا هنا أن نبحر في ذواتنا، ونكتشفها لنتعرف على نقاط القوة ونقاط الضعف، أن نكتشف أفضل الطرق للتعبير عن نعم الله من مواهب وقدرات حتى نصل إلى تقدير هذه النعم وشكرها، وعندها يمكن القيام بتفعيلها في مصلحة مجتمعاتنا، وفي مصلحة الإنسانية التي خلقها رب العالمين.
أبناؤنا كما ذكرت في المقالة السابقة بحاجة إلى أن يبحروا في عالم الخبرات ليشتد عودهم ويستقيم، يحتاجون أيضا إلى أن نشعرهم ليس بحبنا فحسب، ولكن بتقبّلنا لهم أيضًا، وهذا يصبّ في تثبيت الاستقرار العاطفي لديهم، فكيف سيشعر من يبحث دائما عن تقبل والديه اللذين ليس عندهما سوى طلب المزيد أو المقارنة، وكيف ستشعر من تجد نفسها مهملة أمام اهتمام ذويها بأخيها واحتياجاته فحسب، وأنه حين يعتدي عليها بأي نوع من الأذى، سواء أكان لفظيا أو جسديا، يتم تجاهل ذلك لصالح الأخ؟! هل سيكبر الابن واثقا من قدراته أم أن إيمانه بذاته مهزوز، ويضعف ويتجمد أمام أول تحدّ؟ كيف ستكبر الابنة وهي تقضي حياتها في البحث عن منفذ، وهي تعتقد أن كل أمر هو من خطئها؟! سيندمجون في أول جوقة ويعزفون ألحانها! الذوبان مع القطيع ليس خيارا منطقيا، ولكنه الأسهل طالما أن الاستقرار العاطفي مفقود! إن السعادة والفرح ليسا من الرفاهية، ولا هما من التفاهات، إنهما من أبجديات الحياة، مما يجعلها لطيفة طرية مهما كان هناك من مآسٍ أو آلام، والتديّن يجب ألا يكون جافا قاسيا، ومن يتبع ذلك فإنه يدفع بأبنائه إلى الابتعاد، ومن يدري أي طريق سيسلكونه إن لم يكن في الأصل الأساس قويًّا وثابتًا؟! فكم من ملحد سار في طريق القطيع مرددا حجج وأفكار غيره، لماذا؟ ليس فقط لأن الأساس ضعيف، وليس فقط لأنه عاش حياة تدين جافة قاسية، ولكن أيضا لأنه نشأ على عدم القدرة على اتخاذ أي قرار أو تفكير ذاتي!
إنّ علمية بناء الذات أو خلق الذات هي عملية شاقة، ولكنها ضرورية، فحين يبدأ الأبناء بالتعرف على أفكارهم مع كل معلومة جديدة وكل مخزون من الخبرات التي تمر عليهم؛ حقائق غير تلك التي قدمت لهم، حقائق بحثوا عنها وتأكدوا من التوثيق والمصداقية، حقائق تعمل كأساس لبناء الرأي الخاص لكل واحد منهم، وقدرات جديدة تساعدهم على تقييم كثير من الأفكار والآراء، والتعرف على وجهات النظر المختلفة والوقوف والتأمل فيها، يكونون من خلال كل ذلك منغمسين في قلب عملية خلق الذات، وإن أجبرناهم على التخلي عن كل ذلك، واتباع ما نمليه عليهم دون اعتراض أو تفكير، لم نكن نعمل على تدميرهم فحسب، بل إنّنا عملنا على انسلاخهم عن ذواتهم، والناتج إما التمرد، أو الانصياع ليصبحوا بعدها نكرات! ورغم أن الآباء يتمنون على أبنائهم أن يتحلّوا بقيمهم وأفكارهم، ولكن لنتذكر دائما أن أبناءنا ليسوا نسخا عنا، لكل منهم شخصيته الفردية، ثم إن ديننا الحنيف يحث على البحث والتفكر والتدبر في خلق الله، وخلقُ الله لا حدود له، فكيف نحدّه أمامهم؟! نريدهم أن يؤمنوا ليس لأننا نقول ذلك، بل لأنهم اكتشفوا ذلك من خلال معرفة الله من مخلوقاته ونعمه، نريدهم أن يصدقوا ليس لأننا نقول ذلك، بل لأنهم جربوا وعاشوا أهمية الصدق، وقرؤوا كيف أن الكذب يؤدي إلى دمار أسر وحتى مجتمعات ودول، علينا أن نعلّمهم من خلال القدوة والتفكير والبحث؛ وليس عن طريق الأقوال، نحثهم على النقاش والبحث والتقصّي والتوصل إلى الإجابة بأنفسهم.
ولادة الذات أو خلق الذات يجب أن تكون من الفكر وليس من الخاصرة، بغض النظر عما يقال للأبناء أو ما يسمعونه من خلال التنشئة في هذه الحياة، يجب أن ندربّهم على التدقيق والتأكد من كل ما يسمعونه أو يقرؤونه، ونعطيهم المساحة الكافية لكي يتخذوا القرارات، ومن ثم تحمل مسؤولياتها ونتائجها، وهكذا يترعرعون ليصبحوا نسخا أصلية، لا نسخ كربون عنا أو عن غيرنا.