هناك ظاهرة بدأت تنتشر في مواقع التواصل الاجتماعي على شبكة الإنترنت، تتمثل في قيام بعض الشباب بتصوير مقاطع فيديو في البيوت المهجورة، وقراءة آيات من القرآن الكريم فيها، بزعم وجود الجن والشياطين في هذه البيوت، وتُظهر هذه المقاطع وجود أشباح وأصوات مخيفة، تعقبها نار ودخان كدلالة على خروج الجن والشياطين منها.
وبالطبع، فإن هذه المغامرات ما هي إلا خداع وتزييف، الهدف منها كسب أكبر عدد من المتابعين، أو التظاهر بالشجاعة والبطولة أمام الناس.
هذه الظاهرة -في الحقيقة- تعكس ثقافة المجتمع في تصور الجن والشياطين، والتي تبدأ من تربية الأطفال على وجود
أرواح شبحية، لها معجزات حسية وقدرات خارقة، تستطيع أن تتشكل في صورة إنسان أو حيوان، ويتم ترسيخ مثل هذه التصورات في أذهان الأطفال في المدارس، فتروى لهم القصص والحكايات عن عالم الجن والشياطين، وإمكان حضورهم وتحضيرهم وتلبسهم للإنسان، وقدرتهم على إيذاء الناس أو تقديم العون لهم، أو تلاعبهم وعبثهم وتخويفهم للناس في البيوت والصحراء والأماكن المهجورة.
وعلى هذا الأساس، يتم تعليم الأطفال ثقافة الخوف من الجن والشياطين، ومن هنا ينشأ الخوف عند الأطفال.
ومن ذلك -على سبيل المثال- الخوف من الظلام، أو الخوف من أن يبقى الطفل وحده، أو يتخيل وجود أشباح مرعبة قد تحضر في أي لحظة، وعندما يعيش الطفل في مثل هذه الأجواء، فلا شك أنها تؤثر في شخصيته في المستقبل، وقد يخاف من كل شيء، ويصبح بعدها أسيرا للأساطير والخرافات، وفريسة سهلة للدجالين والمشعوذين والسحرة.
لقد أصبحت هذه الثقافة «تصور الجن والشياطين» عقيدة راسخة في المجتمع، وليس هذا وحسب، بل تستند هذه الثقافة إلى القرآن والسنة.
وكما هو معلوم، فإن غالبية المسلمين -بمختلف فرقهم ومذاهبهم- متفقون على عدم الاعتراف بالعقل لنقد عيوب معتقداتهم، مع أنهم يرون أن نقد المعتقدات الأخرى بواسطة العقل، هو من أعمال الخير الواجبة في سبيل الدفاع عن الدين!.
لا شك أن ذكر الجن والشياطين قد ورد في القرآن الكريم في أكثر من آية، ولكن السؤال المطروح هنا: هل مجرد ورود ذكر الجن في القرآن يعني بالضرورة موافقة كتاب الله على المفهوم السائد بين الناس، بأن الجن والشياطين لها قدرات خارقة، وتستطيع أن تتلاعب بالناس وتخيفهم، وتعلم الغيب، وتدخل أجسادهم، وتسبب لهم المرض والصرع والجنون؟.
يقول أحد الباحثين في مجال الفكر الديني عن الجن، إنها «مخلوقات بلا أجساد مادية، وهي مخلوقة من عنصر من عناصر النار، أي من طاقة، وهذه المخلوقات لا يمكن للإنسان رؤيتها والرسول -عليه الصلاة والسلام- لم يرها، ولكن الله- عزّ وجل- أخبره بذلك، ولولا نزول آيات سورة الجن لما علم رسول الله باستماعهم لتلاوته».
من القول السابق، نفهم أن الجن مخلوقات غيبية من مخلوقات الله -عزّ وجل- لها عالم خاص مثلها مثل عالم البشر، وليس لها تأثير على الإنسان، وهذا المفهوم يعد مفهوما منطقيا وعقلانيا، وهذا المفهوم قد ينكره بعض المفكرين في العالم الحديث، ولكن هناك ما يؤيد هذا المفهوم.
ومن ذلك -على سبيل المثال- الجراثيم والبكتيريا والأحياء الدقيقة، فهذه الكائنات تدخل في مفهوم الجن، لأنها لا تُرى بالعين المجردة، وتدخل في مفهوم الشياطين كرمز للإيذاء لما تسببه من أمراض، هذا إضافة إلى نظرية إمكان وجود كائنات ومخلوقات فضائية.
إضافة إلى ما سبق، هناك بعض الطوائف الإسلامية تفسر مفهوم الجن والشياطين بشكل عقلاني، فهي تنظر إلى معنى الجن والشياطين على أنها تأتي حسب سياقها في آيات القرآن الكريم، فهي تأتي بمعنى خاصة الناس من البشر، أو بمعنى الغرباء، وترمز إلى خلق الجن من نار، أي الإنسان الطموح الذي لديه طاقة يختلف عن الإنسان العادي المخلوق من طين.
وبالتالي، يُرمز مفهوم العفاريت إلى العباقرة والمبدعين والفنانين، ومفهوم الشيطان إلى الشر من جميع خلق الله تعالى.
فلفظة «شيطان» في اللغة العربية تعني الشر والباطل والابتعاد عن الحق، ولا تعني جنس كائن مخلوق.
وهناك أيضا من يفسر قوله تعالى: «قل أعوذ برب الناس ملك الناس إله الناس من شر الوسواس الخناس الذي يوسوس في صدور الناس من الجنة والناس»، بأن «الوسواس يكون نتيجة مشاعر خفية في النفس البشرية «من الجنة» الشيء الخفي وليس الجن كمخلوقات حية، كما يتولد الوسواس نتيجة حديثٍ، أو تأثير نفسي من الناس».
هناك أمثلة كثيرة تفسر مفهوم الجن والشياطين بأسلوب عقلاني يحتكم إلى العقل في المسائل الظنية أو الغيبية التي لا يتوافر لها دليل قطعي، والمجتمع في حاجة إلى تفعيل المناهج العلمية التحليلية، ووقفة جادة من العلماء ورجال الدين والمثقفين، للتحذير من سلبيات الخرافة، واجتناب مخاطرها على الفرد والمجتمع.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن وزارة التعليم أقرّت -في وقت سابق- تدريس برنامج مهارات التفكير الناقد والفلسفة، وذلك بهدف تعزيز مهارات التفكير الإبداعي، وتطوير التفكير الناقد والفلسفي، و«الإسهام في تطوير مهارات القرن الـ21». وبالتالي، فإن المنهج العقلاني أصبح ضرورة حتمية في الفكر الديني للإسهام في التطور الحضاري.