للعلم مكانة مرموقة تقر بها كل الفطر السليمة، وصرّح بها الوحي الربانى «قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون» (الزمر: 9).
ولأهل العلم دور كبير في سعادة البشرية وعمارة الكون، إذ العلماء الربانيون هم ورثة الأنبياء الذين حملوا للبشرية الوحي الإلهي، الذي يرشدهم إلى الهداية والراحة في الدنيا «فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى» (طه:123)، كما أن الوحي الإلهي هو الذي يرسم للبشرية خريطة الطريق للوطن الأم «والله يدعو إلى دار السلام» (يونس: 25).
وما أجمل أبيات ابن القيّم حول هذا المعنى الغائب عن أذهان كثيرين:
فحيّ على جنات عدن فإنها *** منازلنا الأولى وفيها المخيم
ولكننا سبي العدو فهل ترى *** نعود إلى أوطاننا ونسلم
ودور العلماء الربانيين لا يقتصر على هداية الناس وإرشادهم في شؤون دينهم فحسب، بل يمتد هذا الدور إلى نشر الخير والتوجيه السليم في كل مجالات الحياة، بما ينعكس على الحياة والكائنات جميعا بشكل إيجابي، وهو ما أرشد إليه نبينا -عليه الصلاة والسلام- في قوله «إن الله وملائكته وأهل السموات والأرضين، حتى النملة في جحرها، وحتى الحوت في البحر؛ ليصلون على معلمي الناس الخير». رواه الترمذي وصححه الألباني.
نعم، أنا كنت أعرف هذه المعاني الجليلة سابقا، فقد كنت قد طالعت سيرة وترجمة الشيخ العلامة عبدالرحمن السعدي -رحمه الله- وكتبت عنها قبل سنوات، ولكن حين تلمس وتعاين الثمار والنتائج الإيجابية لجهود عالم رباني بشكل مباشر في عالم الواقع، بعد أن كنت تطالعها في عالم الكتب، يكون لها مذاق آخر، ووَقْع على القلب مختلف، وقديما قالوا: من ذاق عرف!.
حدث ذلك، حين سعدتُ بحضور مهرجان الجنادرية في دورته الحالية الثالثة والثلاثين، وزرت قرية الجنادرية، وتجولت في بعض أجنحتها، ورأيت مظاهر التقارب والتنوع في العادات والتقاليد بين مناطق المملكة، وأثناء تجوالي وصلت إلى جناح منطقة القصيم، فطرب القلب لها، وتذكرت أنها موطن الشيخ السعدي والشيخ ابن عثيمين -رحمهما الله- فدخلت الجناح متأملا ما فيه، فأسعدني برّ أهل القصيم بشيخهم ابن عثيمين، إذ خصصوا له قسما سموه «رجل من القصيم»، عرضوا فيه بعض تاريخه وصوره وكتبه وإنجازات مؤسسته التي أنشئت لرعاية تراثه، وعمل الخير باسمه.
والجميع يعلم ضخامة الدور العلمي والتربوي للشيخ ابن عثيمين الذي انتشر في ربوع الأرض، عبر طلابه وكتبه وتسجيلاته.
ولكنّ هذا الخير العظيم هو -إن شاء الله- في صحيفة العلامة السعدي الذي توسم في ابن عثيمين النجابة والذكاء والصلاح، فحرص على تفرغه للتعلم، واعتنى به ورعاه حتى خلفه في الإمامة والتعليم في مسجده، وانطلق ينشر العلم الصحيح والوسطية الحقة، مما كان له بالغ الأثر في ملايين المسلمين والمسلمات بهدايتهم إلى التوحيد والسنة، ووقايتهم من الشرك والضلال، والتطرف والغلو.
وتذكرت العلامة السعدي في ندوة الجنادرية المخصصة للشخصيات المكرمة، إذ إن العلامة السعدي كان سببا في نبوغ د. علي الدفاع، الملقّب بملك التكامل، لتفوقه في علم الرياضيات، إذ حث السعدي أهل الدفاع على السماح له بإكمال دراسته في الفرع العلمي بدلا من الفرع الديني، لأنها توافق رغبته وميوله، رغم أن ذلك التوجيه كان غير دارج في ذلك الزمن، وبذلك يكون السعدي قد أحسن للدفاع، وأحسن للوطن، وأحسن للأمة، حين فتح الطريق لولادة عالم كبير في الرياضيات، نفع الناس بمؤلفاته في علم الرياضيات، وبراعة تدريسه لها، خلال تركيزه على الأمثلة البسيطة من حياة الناس، فضلا عن كتبه باللغات الأجنبية في دقائق علم الرياضيات، وكتبه المتعددة عن تاريخ إسهامات علماء المسلمين في نهضة العلم.
ومن اللطائف، أن ابن عثيمين والدفاع كانا زميلين في الماضي شملتهما رعاية السعدي، فنتج عن ذلك عالمان كبيران خدما الوطن والأمة، وبهذا يكون العلامة السعدي جسّد لنا في الواقع دور العالم الرباني، الذي يرشد الناس لما ينفعهم في دينهم ودنياهم بالعلم والحق، وهو الدور الذي يجب أن يتكاتف الجميع لبقاء عطائه واستمراره، ففيه حياة الأمة ورفعة الوطن.