حين سمعت هذا التعبير للمرة الأولى اعتراني وجوم الماثلين إلى الغرائب… قلت لنفسي وكنت بحضرة ناقد عربي لا أرى له نظيرا، إنه الآن في إحدى فوراته الإبداعية، وربما خبت نارها فيما بعد لتتيح له أن يتراجع عن عنف التعبير، أو على الأقل يخفف من حدته، ثم كان أن تأملت هذا التعبير مليا….
كررت النظر إلى واقع ناقلات التعبير لدينا
وها أنا ذا الآن لا أقبل بهذا المصطلح، بل أبحث عن بديل أعنف….
* * *
بدأت القصة مع توجه أحد الصحفيين البارزين لمغازلة الألقاب العلمية والسعي لاستقطاب فئات من الأكاديميين، ولكنها للأسف لم تنته بحصوله على اللقب، بل ما زالت ذيولها الآن أعنف من بداياتها، وها هي تجتاحكم في طوفانات الزوايا وكوارث صفحات الرأي. الكاتب يا سادتي يولد كاتبا هكذا، ويمحض الموهبة فالدراية فالصقل... الخ.
والقادرون من صناع الرأي طوائف شتى لا يلزمهم ولا ينقص من شأن أي منهم أن يكون أي منهم كاتبا، أو لا يكون ما دام يؤدي دوره المنوط به بأمانة الراهب وعفاف الناسك.
أن تكون أستاذا جامعيا فهذا منتهى ما يحلم به طلاب العلم، وأن تكون فاعلا في بناء نهضة بلادك فذاك حلم ما أجمل أن يتحقق في حياتك وترى ثماره في الأذهان التي تصوغها.
لكن كل هذا لا يشفع لك أن تستنهض يراعك لتهدي الصحف بعضا من نفحاتك التي تخجل الصحف من عدم نشرها، لئلا تتهم بالتحامل وإن كلفها الأمر «تفريغ» أحد محرري الصياغة لإعادة ما جادت به القريحة الفذة في الرياضيات أو الطب أو حتى الذرة، لكي تستقيم جوانب الموضوع ويستطيع قارئ الصحيفة أن يتمتع بنفائس ما كتبت، لا يا أخي لا يجوز.
منذ أن انطلقت الصحيفة المعنية في استدعاء كل من وافق من حملة الدرجات، سارعت الأُخَر التي لم يكن لها رئيس تحرير ملهم أو منجذب مغناطيسيا إلى رحاب الجامعات وليتهم تدبروا الأمر ولو قليلا.
ها نحن الآن نستطيع أن نفاخر بأنه لا توجد لدينا صحيفة أو مجلة ولو شبه حائطية إلا وهي «تزدان» بأساتذة علوم الفلك مثلا وهم يصفون لنا حلولا عبقرية لمشاكل لا وجود لها خارج عزلتهم، اللهم إلا صدى من حديث مجالس البلوت، واللهم إلا من رحم ربك.
ومن أطرف ما طالعتنا به هذه النوعية من الأقلام الرزينة المتوهجة لأحد الأساتذة يتسول فيها طلبا ما ثم ينتقل من مد اليد إلى مد اللسان، فيطالب بتحديد المنح أو العطايا وقصرها على فئته من النابغين.
ستقولون ولماذا لا يتسول، عفوا لماذا لا يطالب بما يراه حقا؟
وأوافقكم الرأي طبعا، وأغضب من تسرعي لكني ألمس في خبايا النفس شيئا، ماذا لو أن قارئا طالب بحقه في الصحيفة، وأشار بتحويل المقال إلى معروض يقدم لذوي العلاقة، بل كيف سنرد على من يذكرنا بالمثل الشعبي «شحات وطرار أو لسانو طويل أو ما شئتم»، ماذا نقول لمن تتضح أمامه الرؤى حين ننشر كلاما لهذا ثم نعبس في وجه أبنائنا ونقول لهم احترموا الأساتذة، خاصة أولئك.
أنا على يقين أن قوائم التناقضات والمهازل المماثلة لديكم أطول مما قد يخطر لي على بال، لأني أؤمن أن «الغلابة» من الكتاب في هذا الزمن هم أمام تحدٍّ رهيب: إنهم يكتبون لقارئ يفوقهم ثقافة في بعض الأحوال ويتجاوزهم وعيا في أحوال أخر… كيف السبيل إلى مخاطبتهم؟ وكيف يريد الكاتب لكلمته أن تجد في النفوس صدى. هل للكتابة أدوات قادرة على تحقيق ذلك، ولو في عصور الانفجارات المعلوماتية والوسائط المتعددة multi-media وأطايب الفضائيات؟ أنا أتساءل وأدرك أن غير هؤلاء هم القادرون على الإجابة.
أيها الأحبة نحن نحتاج الآن أكثر من أي وقت مضى لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، لا بد من المحافظة على احترام الناس لأساتذة الجامعات، ولو اضطررنا لحمايتهم من نزواتهم، ولا بد ثانية من انتزاع الكتابة وإعادتها لأصحابها الشرعيين، وهم فقط أولئك الموهوبون الذين لم نكتشفهم فجأة بعد رجوعهم من هناك، إنها مهام غاية في الصعوبة، لكن الفئران تساءلت يوما عمن يعلق الجرس ألا تتذكرون؟
من يعلق الجرس - 2008
كتاب غائبون
ومقالاتهم حاضرة
فايز محمود أبا
ناقد أدبي، وكاتب.
ولد عام 1956 في مكة المكرمة ونشأ فيها
تلقى تعليمه في مدرسة الفلاح بمكة وحضر عدداً من حلق المسجد الحرام التي قوت معرفته بالعلوم العربية والشرعية.
تخرج في كلية التربية بجامعة الملك عبد العزيز تخصص لغة إنجليزية عام 1398هـ/1978م.
عمل بمجال التدريس في التعليم العام، وانتهى محاضرا بالكلية التقنية بجدة
التحق بالصحافة كاتبا ومتعاونا منذ عام 1973م
رأس القسم الثقافي بمجلة «اقرأ» عام 1986م
تفرغ للصحافة عام 1994 وعمل بجريدتي «عرب نيوز»، و«سعودي جازيت»
انتقل لصحيفة الوطن عند تأسيسها 1999م
اهتم بالترجمة والتعريف بالآداب الأجنبية
ترجم عددا من القصص السعودية إلى الإنجليزية
أصدر التاريخ الكوني للخزي لبورخيس (ترجمة) في بيروت عام 2002م
أصدر «من يعلق الجرس؟» عن نادي المنطقة الشرقية الأدبي 2008م ضم جملة من مقالاته
أصيب عام 2003 بجلطة دماغية أدت إلى ابتعاده عن الكتابة