عندما يعزم أحدنا السفر إلى بلاد أخرى بغرض السياحة، فإنه من المفترض أن يكون قد بدأ التخطيط لرحلته من وقت مبكر، ووضع لها ميزانية محددة، وأعدّ عدتها فيما يتعلق بحجوزات الطيران، أو السفر برا، وحجوزات مكان إقامته، وهذا تقريبا ما يفعله أغلب المهتمين بموضوع السفر وهم يخططون لقضاء أيام إجازتهم.
لكن هناك شيء يغيب عنّا نحن العرب، ويمتاز به الغربيون عنا على الأقل، أو يعدّ من ثقافتهم السفرية، ألا وهو التخطيط المسبق في «كيفية قضاء أيام السفر» في البلد الذي يتم اختياره للرحلة، فبعضنا قد يترك الرحلة تجري تبعا للظروف دون وضع مخطط للاستفادة من كل أيامها ولياليها، وهذا التخطيط الذي يعد من أهم ثقافات السفر، عادة ما يحتم على المسافر إلى بلد ما أن يقرأ عنه وحوله، من أجل تكوين فكرة عن البلد وثقافته،عن عملته وطبيعة أهله، ولمعرفة أهم المعالم السياحية التي يكون من الجيد زيارتها ليتعرف على تاريخ البلد.
أيضا من الجيد أن يلم بالخدمات السياحية التي يكون بمقدوره الاستفادة منها، وأن يتعرف على الأماكن التي قد تشكل زيارتها خطرا على السائح، كي لا يغامر بنفسه وبمن معه فيقع فريسة لمجازفات أو مفاجآت مجهولة المصدر قد تعصف برحلته، وتحولها إلى أتراح، مثل مواقع التظاهرات في بعض الدول الأوروبية التي قد يصاحبها عنف.
ولذلك أنا دائما ما أختصر فكرة السفر في كلمة أو عبارة حينما أقول إن «السفر ثقافة»، فالسفر ليس مجرد الانعتاق من مسؤوليات العمل، أو تغيير المكان، وكأن المسألة لا تعدو أكثر من مسألة الهروب من الواقع عند البعض، أو ليقال إن فلانا سافر وأسرته إلى البلد الفلاني، لأن هذا ما يحصل اليوم -مع الأسف- حينما دخل «السفر» إلى «قائمة» ما يمكن أن نسميه «الهياط»، ليصبح السفر من ضمن هوس الهياط والمفاخرة الذي يحصل في «حفلات الزواج» التي لم تسلم من ذلك التسابق نحو البهرجة والمظاهر التي لا تصنع سعادة ولا تحقق هناء، مع أن مسألة الهياط الذي عصف بالمجتمع وأدخلنا في قضية نقاش قد لا ينتهي، لا تزال تمارس فعائله بحجة الكرم والشجاعة وفخر القبيلة.
أعيدها وأكرر بأن «السفر ثقافة»، قد يجد فيه المسافر، سواء أكان بصحبة الأصدقاء أو بصحبة أفراد عائلته، «فرصة» ليستمتع بإعادة ترتيب حياة الأسرة، للمثاقفة للقراءة، للنقاهة، لممارسة الرياضة، للخلو مع النفس، لإعادة ترتيب هندسة النفس التي قد تكون موجوعة نتيجة لتعرضها لمواقف حياتية مؤلمة، فالحياة كما قال أبوالحسن التهامي «طبعت على كدر وأنت تريدها.. صفوا من الأقذاء والأقذار»، أو بعد التعرض للوعكات الصحية، أو لإعطاء النفس مساحة للتأمل في الكون، والتعرف على ما يعيشه الآخرون.
«السفر ثقافة» بمعنى أنه ليس مجرد أيام يتم فيها الصرف ببذخ دون حساب، ولا يعني أن تعبر أيامه سراعا أو بطيئة دون أن يكون للمسافر من أيام سفره أي فائدة قد يجنيها لنفسه أو لعياله، ولعلي أتذكر هنا قول أحدهم «إذا مر بي يوم ولم أصطنع يدا.. ولم أستفد علما فما ذاك من عمري»، وقد قال حقا، فاليوم الذي يمر على المسافر أو على غيره، وحديثي عن المسافر تحديدا، وهو داخل فراشه طيلة النهار، ثم حينما يأتي الليل يأخذ عدته ليسرح ويمرح بين مواقع اللهو والغناء، ومواقع لا تقدم له فائدة، فإن جلوسه في بلده وعند أهله «أبرك وأسلم وأغنم».
هذا أمر، والأمر الآخر قد يلاحظ أن السياح العرب، وتحديدا الخليجيين حينما يسافرون إلى بلدان معينة، سواء كانت في أوروبا أو في دول شرق آسيا، يبدو لك وكأنهم يسافرون ليلتقوا هناك، حتى إنهم لكثرة ما تراهم وهم يتواجدون في بعض الأمكنة، شوارع كانت أم ميادين، تشعر بأنهم قد رسخوا وجودهم ونجحوا في تكريس اسم العرب، حتى إنها لتسمى تلك المواقع باسم «..... العرب»، ولذلك لا تستغرب أن ترى في أغلب بلاد الدنيا السياحية مواقع تسمى شارع العرب أو ميدان العرب أو حي العرب!.
حقيقة لقد تعلمت أن أجمل ما في السفر أن تطلق لقدميك العنان وتجوب الشوارع والأماكن والميادين والمتاحف والمراكز، وألا تترك مكانا يستحق الزيارة، ولهذا أنا أركز على «أسأل عن الرفيق قبل الطريق»، والأفارقة عندهم مثل جيد حول مثلنا العربي «خير لك أن تسافر وحيدا من أن تسافر مع رفيق سيئ»، لأن هناك من سيشجعك، فيما لو كنت في رحلة بصحبة الأصدقاء أن تأخذك أقدامك إلى تلك المواقع والمعالم التاريخية والأثرية، وستجد من يهزأ بك وبمخططك لو قلت هيا نزور المتحف الفلاني، أو الموقع التاريخي العلاني، أو هيا لنجلس في المقهى الشهير الذي كان يوما ما يحفل بعمالقة الأدب والثقافة، أو نزور المكتبة القديمة لفلان وهكذا، لأن له هدفا من الرحلة، وأنت لك هدف، لهذا كل الأمثال لدى الشعوب المتعلقة بالسفر تشير إلى أهمية «تخّير رفيق السفر»، وبالنسبة لي عادة، بل دائما، ما أفضل السفر بصحبة أسرتي، فهذا مثار السعادة عندي وعندهم.
أزعم أني في مرحلة ما قرأت كتاب «ابن بطوطة تحفة النظار في غرائب الأمصار»، وقرأت كتاب أنيس منصور «حول العالم في 200 يوم»، الذي لخص خلاله مشاهداته وهو يزور دول جنوب شرق آسيا، وجزيرة هاواي وأميركا وغيرها، لكنها كلها رغم أنها غنية بالمتعة والمعلومات، قد لا تعدل السفر حين تخطط له جيدا، وتوثق مسار الرحلة جيدا، سواء أكان التوثيق عن طريق التدوين الكتابي، أو بالصور.
إن «السفر ثقافة»، فهو يثري تجارب الإنسان في فهم الحياة، وعند اليابانيين مثل يقول «إذا كنت تحب ابنك فدعه يسافر»، وهم يقصدون من ذلك أن يزيد من تجاربه ويصقل خبراته، علاوة على أن السفر يفيد المسافر في فهم من يصادف أثناء الرحلة، وقد يعينه على اكتشاف معادن من رافقوه فيها، ولهذا سمي «السفر» لأنه يسفر عن أخلاقيات رفقاء السفر، وقد قرأت فيما يروى عن عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، أنه أوتي إليه بشاهد، فقال عمر للرجل: هل تعرفه؟ قال كلما دخلت المسجد رأيته قائما راكعا ساجدا، قال هل هو جارك؟ قال لا، قال هل عاملته بالدرهم والدينار؟ قال لا، قال هل سافرت معه؟ فإن السفر يسفر عن أخلاق الرجال؟ قال لا، قال: إذن لا تعرفه.