منذ بدايات استكشافهم المنطق، لطالما لمس الفلاسفة والشعراء منافع القلق، فشبهه سورين كيركجارد بأنه «دوار يصيب العقل»، وهو «خادم الإبداع» كما قال تي إس إليوت، و«بداية الضمير» كما لاحظت الروائية أنجيلا كارتر. استخدمه الممثلون وراء ستارة المسرح لاستحضار طاقات وقوة لا متناهية لتأدية أدوارهم، كذلك فعل العداؤون في المضمار، موجدين لأنفسهم ينابيع من الهرمونات مستمدة من خوفهم من الفشل، فحققوا أوقاتا لم يصلوا إليها في تمارينهم.

أما بالنسبة لنا فعندما يكون السباق سباقا للوصول إلى العشاء دون تعكير مزاجنا، أو دون فقدان عملنا، أو دون فقدان صوابنا نتيجة التوترات التي نواجهها، فإن أحدا منا لا يود أن يتخذ من القلق صديقا. فحياتنا اليومية فيها بكل الأحوال ما يكفي من الأسباب لجعل الأدرينالين يضرب على عقولنا. كل هذا ولم نذكر بعد مشاكل الازدحام، والركود الاقتصادي، والحروب، والتهديدات الإرهابية، وتقلبات الطقس.

«إن عدم القدرة على معرفة ما ينتظرنا في المستقبل، والشك، وعدم قدرتنا على التحكم بالأمور، كلها أمور تثير لدينا القلق تلقائيا، إنها إشارة لخطر داخلي أو خارجي يحيط بنا». تقول سالي وينستون، مديرة معهد القلق والاضطراب في ماريلاند.

تتضمن اضطرابات القلق بشكل عام اضطراب الوسواس القهري، والفوبيا، واضطراب الذعر، القلق الاجتماعي، اضطرابات ما بعد الصدمة، وهي من أكثر الأمراض العقلية انتشارا في الولايات المتحدة، فهي تؤثر على 18% من السكان، أي على 40 مليون شخص أميركي بالغ. وليس البالغون فقط هم من يعانون، فالفوبيا والحالات المرضية الأخرى يمكنها أن تصيب الأطفال، والتلاميذ الذين يتقدمون للجامعات، أو الذين يحضّرون للامتحانات النهائية، أو من دخلوا سوق العمل حيث التنافس على أشده.

يتسبب الإفراز المفرط لهرمونات القلق بإنهاك الجسد، ويضغط على الحمض النووي DNA الذي يحافظ على استمرارية انشطار الخلايا وعلى حياتها الطويلة، كما يضيّق على الأوعية الدموية، ويسبب ارتفاع ضغط الدم. وحتى الأجساد المنيعة تتأثر به، لأنه يتسبب في عدم إنتاج كريات الدم البيضاء التي تتجول باحثة عن البكتيريا والفيروسات بالمعدلات الطبيعية اللازمة لمكافحة المرض. لهذه الأسباب بالذات لطالما ارتبط القلق والتوتر بالسكتات والذبحات القلبية، واضطرابات المناعة، والسمنة، والعقم، وغيرها.

هناك علاجات نفسية فعالة للقلق والكثير من الأدوية التي تساعد على التخفيف من حدته. لكن إذا أخذنا بالاعتبار أن عدد الأميركيين الذين يعانون القلق يماثل عدد سكان الأرجنتين، لا شك عندها أن هناك ثغرة في معرفتنا الطبية. الخبر الجيد هنا هو أن العلم بدأ يملأ هذه الثغرة. فتكنولوجيا المسح الجديدة تظهر كيف يتسبب القلق بإنهاك العقل (حيث تستطيع البحوث على الجهاز العصبي التمييز بين الأشكال المختلفة للاستجابة الناجمة عن التوتر، وتدرس الطرق المختلفة لإيقاف كل منها). كما أن هناك دراسات تجري على الدم تستكشف كيف تحدد التفاعلات الكيميائية التي يسببها التوتر طبيعة وحدّة استجابتنا لموقف ما. ثم تأتي الخارطة الجينية لتخبرنا القصة المعقدة لمكان تموضع التوتر على المجينات (وهي مجموع الجينات في الكائن)، مما يساعد في تحديد أي منها قد يكون واقعا تحت خطر كبير، ومما يعطي فرصة للتدخل المبكر الذي قد يمنع الشقاء لاحقا.

ولا يعني هذا أن كل أنواع التوتر يجب محاربتها. فهناك أنواع يجب تبنيها، لا بل والاحتفال بها. فعند إفرازها بالكم الصحيح، يمكن للهرمونات التي تسبب القلق أن تدفع بحواسنا لأداء وظيفتها بدقة. هناك في الواقع منحنى معروف لدى علماء النفس يُظهر بشكل جميل العلاقة بين القلق والأداء، يأخذ هذا المنحنى شكل جرس يصعد باستمرار ويتبعه على نفس الخطى ارتفاع في التوتر والقلق الذي يصاحب الأداء المتميز ذا المستوى الرفيع. وقمة القوس (وهي المكان الذي تنسجم فيها أنظمة الجسم مع بعضها انسجاما تاما، وتكون الحواس متيقظة، ونستطيع بكل وضوح استدعاء كل ما تعلمناه)، هي بالضبط اللحظة التي يتعلم أصحاب الأداء الرائع كيف يستغلونها أحسن استغلال لتحقيق ما كانوا يرونه مستحيلا.

لذا فالموضوع لا يتعلق بمدى القدرة على عدم الشعور بالقلق، لكنه يكمن في تعلم طرق لإدارة القلق. فالقلق في حد ذاته ليس مفيدا ولا ضارا تقول وينستون. «لكن استجابتنا للقلق هي التي تحدد كونه ضارا أم نافعا».


أليس بارك



* كاتبة بارزة، وباحثة متخصصة في الطب

* مجلة تايم