يعد تعليم الفلسفة في المرحلة الجامعية تعليما مقبولا نسبيا، فهو تعليم منتشر في أغلب دول العالم تقريبا، ويبدو هذا التعليم وكأنه بلا مشكلات، ولكنه في الواقع يعاني مشكلات كبيرة تهدد وجوده، فأغلب جامعات العالم صارت تحرص على التعليم ذي الطابع النفعي الأداتي المتوافق مع متطلبات العصر الحديث، مبعدة بذلك كل التخصصات والمواد ذات الطابع الفكري والنظري والتأملي المجرد.
كان تدريس الفلسفة إشكاليا على الدوام، والحديث عن تدريس الفلسفة للمراحل ما قبل الجامعية أكثر إشكالا بين من يؤيده ومن يعارضه، لأسباب لا تتعلق بالفلسفة نفسها وحسب، ولكنها تتعداها لطريقة تحويل المعرفة الفلسفية إلى معرفة مدرسية تلائم عقلية الطالب في المراحل المدرسية، نظرا لأن تعليم الفلسفة في الجامعة يختلف عنه في المدرسة، فتعليم الفلسفة في المرحلة الجامعية يعطى للطالب دون أي تحويل للموضوع الفلسفي، بينما يمر هذا الموضوع لعملية تحويل ليصبح معرفة مدرسية تراعي عمر الطالب ومستواه الفكري في مرحلة التعليم الثانوي.
تخضع عملية التحويل لقواعد تربوية ضرورية لتحويل المواد العلمية إلى معارف مدرسية، وذلك بتنظيمها وترتيبها بشكل مبسط يجعلها قابلة للاستيعاب من قبل المتعلم، وهذا التحويل الذي يطلق عليه في المجال التربوي «بالنقل الديداكتيكي» قد يكون مقبولا عندما يطبق على معارف مثل الرياضيات والفيزياء والكيمياء، ولكنه في مجال الفلسفة قد يكون أكثر صعوبة لما تملكه الفلسفة من خصوصية تجعلها غير قابلة للتحويل لمعرفة مدرسية، وقد يعرضها للتشويه أو التغيير الكلي، مما يفقدها معناها وقيمتها، ويرمي بها في فخ التلقين المموه.
إن الفلسفة تختلف عن بقية الأنظمة التربوية، فهي ليست علما محددا أو معرفة محددة، وهذا ما يجعل تحويلها لمادة مدرسية ضربا من الخيال، فمواضيع الفلسفة كانت على الدوام إشكالية، ولا شك أن تحويلها لمادة مدرسية سيكون أكثر إشكالا، فالصعوبات المتعلقة بتدريس الفلسفة كثيرة ومتشعبة، وهي تطال الجميع: المتعلمين والمعلمين والمناهج والمجتمع، فقد أصبح تعليم الفلسفة على المحك، مما جعل الأزمة تستفحل يوما بعد يوم حتى دعت الحاجة لإعادة النظر حولها في أغلب مدارس وجامعات العالم.
في مطلع كتابه «مباهج الفلسفة» يقول ويل ديورانت «لماذا لم تعد الفلسفة اليوم محبوبة؟ ولماذا اقتسم أبناؤها -أي العلوم- ميزاتها، وألقوا بها خارج الدار، وكأنها الملك لير، في عقوق أشد قسوة من رياح الشتاء؟»، ويضيف في نفس الكتاب قائلا: «ليست الفلسفة محبوبة اليوم لأنها فقدت روح المغامرة، ذلك أن ظهور العلوم المفاجئ استلب منها واحدا بعد الآخر عوالمها القديمة الشاسعة، فأصبحت الكوسمولوجيا علم الفلك والجيولوجيا، والفلسفة الطبيعية علم الحياة والطبيعة، وتحولت فلسفة العقل في هذه الأيام إلى علم النفس. لقد هربت منها جميع المشكلات الواقعية والبارزة.. ولعل العالم ينسى يوما أن الفلسفة كانت موجودة، وأنها حركت القلوب وأرشدت العقول».
كانت الفلسفة مرتبطة بالعلم في قرون سابقة، ولكن هذا الارتباط لم يدم طويلا، إذ انفصل العلم عن الفلسفة حتى وصل مرحلة القطيعة، بل وصل الأمر بينهما حد الخصام، فلم يكف أرباب العلم عن مهاجمة الفلسفة ووصفها بالنقائص، فقد نالت العلوم استقلاليتها التامة، وصارت هي الملكة المتوجة في عصر العلم الحديث وتطبيقاته، ولم تعد تفيد الفلسفة إلا في تزجية وقت الفراغ كما يقول كلود برنار «لا أعتقد بأن الفلسفة علم، إنها نوع من الترف الفكري، أن يتناول الفيلسوف المواضيع الفلسفية، بعد أن يكون قد قام بأعمال متعبة، تماما كما يقوم الإنسان بالتنزه بعد نهار عمل طويل وشاق أمضاه في المختبر.. الفلسفة لا تعلمنا شيئا جديدا بواسطة نفسها لأنها لا تختبر ولا تراقب، المصدر الوحيد لمعارفنا هو الاختبار».
ولم يكن برنار هو الوحيد الذي صرح بعدم فائدة الفلسفة في هذا العصر المطبوع بطابع العلم، في عالم أصبح خاضعا لمتطلبات العلم القائم على التطور التقني السريع، فهناك فيلسوف الوجودية الشهير مارتن هيدجر الذي ألمح لنهاية الفلسفة واضمحلالها على يد المنهج العلمي الذي تعتمده العلوم الوضعية، وخير دليل على ذلك «إصلاح هابي» في فرنسا، وبخصوص إصلاح هابي يقول بيار مالك في كتابه «الفلسفة وتعليمها» بأن الفلسفة قد أصيبت في الصميم عندما قلصوا عدد ساعات تعليم الفلسفة، وهمشوا فرع الإنسانيات الذي كان يعرف باسم صف الفلسفة. وإصلاح هابي: هو مخطط لإصلاح التعليم الثانوي في فرنسا وضعه جيسكار هابي، حاول في خطوطه العريضة تحجيم تعليم الفلسفة في المرحلة الثانوية بهدف إلغائها من المناهج فيما بعد.
وفي الحقيقة أنا لست ضد تعليم الفلسفة، سواء في المرحلة الجامعية أو المراحل ما قبل الجامعية، بقدر ما أنا ضد التعويل الكبير عليها وعقد الآمال والطموحات عليها، مع ربط حركة التحديث والتنمية بها، فالفلسفة قد فقدت كثيرا من بريقها في العصر الحديث، ولكن هذا لا يمنع من تعليمها انطلاقا من تاريخها، فبعض بلدان أوروبا تكتفي بتقديم عرض للفكر الفلسفي منذ عصر ما قبل سقراط، مرورا بعصر أفلاطون وأرسطو، ثم تنتقل لحقبة فلسفة العصور الوسطى، وهي حقبة الفلسفة الكاثوليكية التي أهم رموزها توما الأكويني، ثم تنتهي بفلسفة عصر النهضة والفلسفة الحديثة.
يقوم المعلم بشرح النظريات الفلسفية للفلاسفة عبر هذه العصور مع ترجمة لسيرة أهم الفلاسفة الذين صنعوا نقلات نوعية في حقل الفلسفة، وإعطاء نبذة مختصرة ومبسطة لأهم فلسفات وأفكار هؤلاء الفلاسفة، لأن الفلسفة لا تستطيع أن تنفصل عن واقعها التاريخي الذي بلور كثيرا من النظريات الفلسفية، وطريقة العرض التاريخي في تدريس الفلسفة معمول بها في كثير من البلدان، والهدف منها تثقيف الطالب بواسطة عرض الحركة التطورية للفلسفة، وأهم المحطات التي مرت بها وأدت بها إلى السيادة المنهج العلمي في العصر الحديث.