عرفت شعر الأمير عبدالله الفيصل (1341-1428 =1923-2007) في طورين مختلفين من حياتي؛ الأول حين قرأت في الكتاب المدرسي بائيته:

مرحى فقد وضح الصواب / وهفا إلى المجد الشباب

عجلان ينتهب الخطا / هيمان يستدني السحاب

في روحه أمل يضي / ء وفي شبيبته غلاب

 والآخر لما اقتنيت ديوانه وحي الحرمان، سنة 1402، وأنشأت أقرأه، وأستظهر قدرا صالحا من قصائده، وكنت أجد فيها لذة ومتعة، لا سيما أن قصائد عبدالله الفيصل، إلا ما ندر، موضوعها الحب والغزل والجمال، وعساها كانت تعبر عما يحسه شاب في المرحلة الثانوية خفق فؤاده بالحب فألفى في شعر الأمير بعض ما استهواه.

 لم أقرأ عبدالله الفيصل بعد ذلك، ولم أرجع إلى ديوانه الأول وحي الحرمان، ولا الآخر حديث قلب، لكنني لم أجف شعره لما بدل الله – تبارك وتعالى – من حالي ما بدل، فلما دعيت، بعد عهد طويل، إلى النظر في شعر الأمير، جعلت أقرأ «الحرمان» الذي التصق به، وعساني لما رأيت فيه «حجابا»، إنما دللت بذلك على مقدار ما ألم بأفكاري، فلم أر في شعر الأمير إلا ما يصلح لما أريد! على أنني، في كل أحوالي، لم أجف شعره، كما جفوت شعر آخرين، وإن كنت قلما أعدت النظر فيه، وربما ظننت أنني عدوت طور الحب والغزل والغرام، أو لعلي قلت: إن الأمير إنما يصف آنيته، حين لم يجد في الحياة إلا ما ينزع به إلى منازع العشاق، لكنني لم أنس شعره، ولم أجفه.

 وعبدالله الفيصل معدود في الشعراء الرومنطيقيين، أو الوجدانيين، كما يحب الناقد عبدالقادر القط أن يدعو أصحاب هذا الاتجاه من الشعراء العرب، ولما قرأ طه حسين ديوان وحي الحرمان، رأى في قسمات الأمير الشاعر وجوه أسلافه من الشعراء العذريين في بوادي نجد والحجاز! ثم إذا به يحسبه على الشعراء المصريين، ولا سيما علي محمود طه وإبراهيم ناجي، وكأنما العميد لا يزال على قديم مذهبه لما قال، في سنة 1351=1933: إن أدباء الحجاز ونجد، في العصر الحاضر، ما انفكوا يقلدون المصريين والسوريين كلما طاب لهم أن ينظموا أبياتا من الشعر، أو يعقدوا فصلا من النثر! وكان عبدالله الفيصل، عنده، شركة بين نجد، حيث ولد، والحجاز، حيث نشأ ودرج وعاش، ومصر ولبنان، لأنه ألم بهذين البلدين وطاف بهما.

 وأنا لا أنفي عن عبدالله الفيصل، ولا عن غيره من شعراء الجزيرة العربية – بل شعراء العربية كافة – أثرا من بداوة علق بلغتهم وأخيلتهم، مهما تكلفوا الاستقلال بأنفسهم، ومهما أرادوا التجديد وتواصوا به، أما أن عبدالله الفيصل قد اقتفى أثر علي محمود طه وإبراهيم ناجي، فذلك قدر الجيل كله، وإن فات طه حسين أن يقرأ في شعر الأمير أثرا لا تخطئه العين ولا الأذن للشاعرين اللبنانيين أمين نخلة وسعيد عقل، وتكاد تكون قصيدتا الأمير الشاعر «عواطف حائرة» – تلك التي ندعوها «ثورة الشك» – و«سمراء» = إعادة كتابة لقصيدتي أمين نخلة «الحبيب الأول»، وسعيد عقل «سمراء».

 على أننا نستبين أثر علي محمود طه وإبراهيم ناجي في شعراء البلاد السعودية الذين استهوتهم الرومنطيقية في مذاهبهم، وإننا لنقرأ في كتاب «شعراء نجد المعاصرون» الذي أخرجه عبدالله بن إدريس عام 1380=1960 كيف تسربت مفردات «الزورق» و«الملاح» و«البحر» إلى قصائد جمهرة من الشعراء النجديين، مهما أحاطت الصحراء بهم، وليس ذلك بغريب، متى عرفنا أن شعر «الملاح التائه»، علي محمود طه، لم ينج من سطوته شاعر في مشرق الأمة ومغربها، إبان ذلك العصر، على اختلاف البيئات وتباين المشارب.

 وفي شعر عبدالله الفيصل أثر رومنطيقي، هو عندي مباين لثقافة الأمير وأسرته، وإن لم يباين ثقافة شاعر رومنطيقي، أسرف خياله فأدى إلينا قصيدة هي من خير ما أنشأ، لكنها، على جمالها وعذوبتها، غريبة المعنى شاذته! أعني قصيدة «أطيلي الوقوف». ولعلك لو قلت: إن شعر عبدالله الفيصل لم يعد ثقافة أمير شاب – حين أذاع ديوانه عام 1373=1954! – أخلص ديوانه كله، إلا قليلا، للحب والغزل والغرام = ما جاوزت الحقيقة، وعساك تراه أدنى إلى ثقافة القصور، وما يرجوه من المرأة أمير شاعر غزل، فإذا عينا معشوقته عينا مهاة، وإذا شعرها كالليل أسود، وإذا بك تخرج من وحي الحرمان وأنت تقول: إن للأمير الشاعر «حرمانا» يباين «حرمان» سواه من الناس، لكنك، لا شك، ستحمد له أن أدى إلينا شعرا رائعا، وأن أشعرنا بذلك القدر من الحب والخير والجمال.

 وأنا حفي بقصيدة «أطيلي الوقوف»، وأعتدها من أجود ما أنشأه الأمير الشاعر، وكان يطيب لي أن أقرأها في ذلك العهد البعيد، وأن أستظهر شيئا من أبياتها، وأحس فيها أثرا من قراءتي الأولى لها، وأشعر بأثرها ذلك الغريب، كلما استعدت طرفا منها، وكأنما كان فيها شيء يجتاز ما ندعوه «رثاء النفس»، لا سيما حين نبلغ هذا البيت:

وحطي على القبر بعض الزهور / ففي الزهر ذكرى لقا ممتع

 وموضع الشاهد – إن استعرت لغة الأسلاف – قوله: «وحطي على القبر بعض الزهور»! والحق أن المعنى يرتاح له «الرومنطيقيون» من القراء، وعساهم لا يولونه فضل عناية، وكل غايتهم أن يحسنوا تلقي ما أداه إليهم الشاعر، وأن يديروا في خيالهم هيئة تلك المرأة العاشقة الحبيبة، وهي تدلف إلى «المقبرة»، وتقف على قبر حبيبها، ثم لا تكتفي بذلك، إنما تضع – أو تحط – على قبره بعض الزهور، وربما رأوا في ذلك ما يشبه خاتمة قصة عشق عاصف، أو نهاية فيلم من أفلام ذلك العهد الذي أنشأ فيه عبدالله الفيصل قصيدته!

 وأنا كنت واحدا من أولئك القراء؛ رأيت في القصيدة ما رآه أولئك القراء المفترضون. أحببتها كما أحبوها، ولم يشطح بي الخيال – ولم لا أقول: العقل؟ - أبعد مما تؤديه كلمات القصيدة، ولم ألتفت إلى أن البيت يباين ثقافة الشاعر وثقافة أسرته، بل وثقافة بلاده! ولعلي أستعير، هنا، كلمات طه حسين تلك التي قالها عام 1376=1957، فأصف الأمير الشاعر كما وصفه: «والمحروم هنا أمير ذو وزارتين، جده ملك عظيم، وعمه ملك كريم، وأبوه أمير ووزير خطير»! لكن إلى غاية تخالف غاية العميد، فالأمير ذو الوزارتين – إلى آخر تلك الأوصاف – يعتزي إلى أسرة «سلفية» الثقافة والتربية والمشرب، مهما كان شاعرا رومنطيقيا غزلا! وتأبى سلفيته – بل دينه – أن تقف امرأة على قبره، دع عنك أن تضع أزهارا على ذلك القبر!

 وأنا لم أسق هذا الكلام لأجادل الشاعر في قصيدة، هي، لا شك، ضرب من الخيال، إنما استوقفني ذلك المعنى الذي يباين ثقافة الأمير وما نشأ عليه، مهما أساغته صنعة الشعر لعهده وارتضته، وأنت تعرف أن أقصى ما توارثه أسلافه من الشعراء، في الجاهلية والإسلام، الدعاء بسقيا القبور واستمطار السحب الغوادي، كما قال الأول:

ألما بمعن ثم قولا لقبره: سقتك الغوادي مربعا ثم مربعا

 لكن، مهلا! إن للشعر على قائله سطوة، وإن الشاعر ينزل على حكمها، مهما أسرف في الخيال. والشعر، وحده، هو الذي يحمل «أميرا ذا وزارتين، جده ملك عظيم، وعمه ملك كريم، وأبوه أمير ووزير خطير» = على أن ينحي «الإمارة»، ويعنو لشرط الشعر ليقول هذه الأبيات، مهما رأينا فيها إسرافا وشططا:

وأنت محراب قلبي فحيثما كنت يسجد

وعيشي مدى العمر بالذكريات وطوفي بمغنى الهوى واخشعي

وزوري ثراي إذا ما السكون أطل وعند الثرى فاركعي

 كان عبدالله الفيصل في الثانية والثلاثين من عمره يوم أذاع في الناس ديوانه وحي الحرمان، ونسأ الله - تبارك وتعالى – في أجله، فعاش، بعد ذلك العهد، خمسا وخمسين سنة، حتى أدركه الموت عام 1428=2007 عن سبع وثمانين سنة، وكان قبره الذي أدرج فيه لا يختلف عن تلك القبور التي ترامت في المدى إلى غير نهاية، لا أثر فيه لتلك «الزهور» التي استهوت خيال شاعر رومنطيقي شاب، وليس سوى الصمت الذي يوشك أن يلف المكان، يقطعه، آناً بعد آن، سقوط حمام الحمى على تلك القبور، حيث ينتثر الحب، وكأنها تؤنس وحشة أصحابها بهديلها!