المظاهرات التي تجري هذه الأيام في فرنسا كمثيلتها التي جرت في بريطانيا سنة 2008، والتي جرت في وول ستريت نيويورك سنة 2011، كلها تعاملت معها السلطات بقوة القمع، ولو تطورت لتطور مع تطورها ذلك القمع، وهو الأمر الذي تترشح له مظاهرات باريس هذه الأيام.
ولا نسمع من حولنا سوى القليل من التنديدات باستخدام القوة في تفريق المتظاهرين؛ بل على العكس تعمل وسائل الإعلام الغربية على نقل الجانب السيئ في هذه المظاهرات من أعمال سطو وتخريب؛ لإيصال رسائل سلبية عن المتظاهرين كأسلوب مستتر لتأييد العنف في مواجهة التظاهر؛ وأي رغبة خجولة في التنديد بقمع المظاهرات تواجه بالرد من فرنسا بأن الأمر شأن داخلي؛ وربما كان هناك ترتيب لاستخدام هذه المظاهرات كذريعة لاستصدار أنظمة للتضييق على أبناء الأصول الأجنبية، أو تضييق أنظمة الهجرة.
مطالب المتظاهرين في فرنسا وقبلها في لندن ونيويورك هي عين مطالب المتظاهرين في تونس ومصر واليمن وسورية: الشكوى من البطالة، والفقر، والتهميش، والغلاء، والضرائب، واحتكار الثروة؛ وإنما الفارق بين الطرفين: أن هذه المشكلات في البلاد العربية بادية للعيان، وفي أوروبا مستترة تحت بنية تحتية ممتازة، ومساحات خضراء، ومظاهر مدنية باهرة، تخفي تحتها كل المشكلات التي تعاني منها الطبقة العاملة في البلاد الغربية، وربما بنسب متقاربة مع بعض دول الشرق الثائرة.
عادت الذاكرة بالكثيرين جرَّاء ما يجري في فرنسا إلى أحداث ما عرف بالربيع العربي، ووجدنا في ساحة الإعلام الاجتماعي فريقين متناقضين في رؤيتيهما، يستخدمان الحدث نفسه -وهو مظاهرات باريس- في الدعاية لوجهتيهما. فمؤيدو ثورات العرب يقولون: انظروا كيف يطالب الأوروبيون بحقوقهم فيما يُحرِّم علينا القيام بهذا الحق.
ومعارضو الثورات يقولون: انظروا كيف يقمع الغرب المتظاهرين في بلاده بينما يؤيدهم في بلادنا!.
*والحقيقة التي تتجلى لي: أن أوربا -وبخاصة فرنسا- أعظم من اكتوى بنار المظاهرات الشعبية، وعرف أثرها السيئ على البلاد والعباد؛ فالمظاهرات الشعبية التي ابتدأت في العقد التاسع من القرن الثامن عشر، ثم أنتجت ما عرف تاريخيا بالثورة الفرنسية، وقتل الملك لويس السادس عشر عام 1793م؛ تلك المظاهرات ظلت فرنسا تعاني من ويلاتها قرابة المائة وخمسين عاما، ولم تشهد الاستقرار والسلام إلا بعد الحرب العالمية الثانية؛ حتى أن بريطانيا التي عرفت الثورة الشعبية والحكم الديمقراطي قبل فرنسا بقرابة المائة عام خشيت على نفسها من تأثيرات الثورة الفرنسية؛ فقامت بالتضييق على الحريات أثناء الثورة في باريس وما تبعها من أحداث؛ خوفًا من تسرب أفكارها المناهضة للدين، واحترازا من آثارها السيئة على الأمن والاستقرار؛ بل تبنت بريطانيا لعقود نشر كتب نقد الثورة الفرنسية والترويج لها كما يذكر رونالد سترونبيرغ في كتابه «تاريخ الفكر الأوروبي». بالطبع هذا خلاف ما يتمُّ إشاعته في ثقافتنا العربية المعاصرة من أن الغرب يدعم التظاهرات بجميع أشكالها، ويعتبرها حقا للشعوب تكفله المبادئ الديمقراطية، فهذا كله غير صحيح، كما أن القول بأن مؤرخي أوروبا يحتفون بالثورة الفرنسية التي قامت على التظاهرات الشعبية غير صحيح أيضًا، فقد ظلت الثورة الفرنسية مائة عام وهي محل نقد داخل فرنسا، ومحل تردد خارجها، حتى قال عنها أديب أسكتلندي كبير بالرغم من إيمانه بمبادئها وهو توماس كارليل بعد خمسين عاما من قيامها: «غدا الناس أحرارا في أن يختاروا طريقهم، لكنهم أحرار في أن يتضوروا جوعا» [تاريخ الفكر الأوروبي، سترنبيرغ 325]، وكان المؤرخ والفيلسوف الفرنسي جوستاف لوبون الذي توفي بعدها بمائة وخمسين عاما [1931] أفقه الناس بها، وقد أبلغ في نقد أسبابها وفلسفتها ونتائجها في كتابه: «الثورة الفرنسية وروح الثورات».
*والذي تؤكده الأحداث: أن دول أوربا تؤيد المظاهرات مطلقا إذا كانت في بلاد خصومها أو من تتهيأ لخصومتهم، بل إنها تسهم في إعداد هذه المظاهرات وتؤوي المعارضين وكل من تأنس فيه أنه سيبلغ يوما ما ما تنشده من الإضرار بتلك الدولة، وكذلك إذا كانت ستستفيد من تلك المظاهرات؛ أما في بلادها فهم أكثر تفصيلا وحذرا واحتياطا. وهنا يأتي دور السؤال: ما التفصيل الذي يعتنقه الغرب في حكمه على المظاهرات؟
والجواب يكمن في فلسفة أو غاية كل مظاهرة بعينها: فهل هي إرادة شعبية للتعبير أم إرادة تغيير؟ نعم: الغرب يفرق كثيرا بين المقصدين؛ وقد قمتُ لأجل إيضاح ذلك باستعراض عدد من الدساتير الأوروبية فوجدتها متفقة على أن المظاهرات حق في التعبير، ولهذا اتفقت جميع القوانين والمواثيق الدولية لحقوق الإنسان على حق الدول في وضع قانون ينظم هذه المظاهرات والتجمعات السلمية، ولا يوجد أي وثيقة دولية أو قانون يطلق الحق في المسيرات والتظاهرات دون تَقَيُّد بالنظام؛ بل إن جميع هذه المواثيق تتفق على حق الدول في منع أي تجاوز في التظاهر لحدود ما هو مصرح به. ومن أشهر هذه المواثيق: العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والاقتصادية، والاتفاقية الأوروبية، والاتفاقية الأميركية، والميثاق الإفريقي (بنجول).
ويمكننا الاقتصار في ضرب الأمثلة على نص المادة 21 من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية، تقول المادة: (يكون الحق في التجمع السلمي معترَفًا به، ولا يجوز أن يوضع من القيود على ممارسة هذا الحق إلا تلك التي تفرض طبقا للقانون وتشكل تدابير ضرورية في مجتمع ديمقراطي؛ لصيانة الأمن القومي، أو السلامة العامة، أو النظام العام، أو حماية الصحة العامة، أو الآداب العامة، أو حماية حقوق الآخرين وحرياتهم).
وفي هذه المادة نص على الأحكام التالية:
1. القانون مُخَوَّل له فرض قيود على التجمع.
2. هذا التجمع يجب أن لا يتنافى مع مبادئ الديمقراطية، ومعنى ذلك أنه لا يشكل فرضا لوجهة نظر المتظاهرين، وهو المعنى الذي تؤكده الجملة الأخيرة من المادة: (أو حماية حقوق الآخرين وحرياتهم).
3. القوانين التي تُفرض على المتظاهرين يجب أن تراعِي حماية الأمن القومي والسلامة العامة والنظام العام والصحة العامة.
إذًا، فهناك إجماع دولي على عدم قانونية التظاهر خارج حدود القانون، وقد أكد هذا الإجماع العهد الدولي المتقدم الإشارة إليه حيث جاء نصه: (فيما تمنح جميع معاهدات حقوق الإنسان الدولية والإقليمية للأفراد الحق في حرية الاشتراك في الجمعيات والتجمع السلمي، فهي تتيح للدول فرض قيود معينة على تلك الحقوق للأسباب وبالشروط المحددة فيه). وهذا النص يؤكد على إجماعين للمواثيق الدولية:
أحدهما: على حرية الأفراد في التجمع السلمي.
الآخر: تقييد هذه الحرية بالقيود القانونية بالأسباب والشروط المحددة في كل قانون.
أما إلى أي حد يمكن للدولة أن تقف في وجه المظاهرات المخالفة للضوابط القانونية؟ فقد بينه الفصل الخامس عشر من دليل التدريب على رصد حقوق الإنسان، والصادر عن مفوضية حقوق الإنسان سنة 2001، حيث جاء في الفقرة 8 من البند -ج- تحت عنوان: معايير استعمال القوة من جانب الموظفين المكلفين بإنفاذ القوانين ما نصه: (تتمتع عموما السلطات المحلية والوطنية على السواء بسلطة السيطرة على المظاهرات لصالح استعادة النظام العام. ويوجد لدى قوات الشرطة في بعض البلدان بما فيها القارة الأوروبية واليابان والولايات المتحدة الأميركية فِرَق شبه عسكرية متخصصة في السيطرة على الشغب، وهي فرق مدربة للتعامل مع المظاهرات). إذًا فالغرب الديمقراطي يقر استخدام القوة لمنع خروج المظاهرات عن ضوابطها القانونية، بل ولديه قوات خاصة للمظاهرات.
ولمعرفة هل يسمح النظام الدولي باستعمال القوة ضد المتظاهرين بشكل غير قانوني؟ نقرأ المادة 12 من المبادئ الأساسية لاستعمال القوة من جانب الموظفين المكلفين بحفظ القوانين، وهذه المبادئ اعتمدها مؤتمر الأمم المتحدة لمنع الجريمة سنة: 1990؛ تقول المادة 12: (حيث إن لكل شخص الحق في المشاركة في التجمعات القانونية والسلمية طبقا للمبادئ المنصوص عليها في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، تعترف الحكومات والوكالات والموظفون المكلفون بإنفاذ القوانين بأنه لا يجوز استعمال القوة والأسلحة النارية إلا طبقا للمبدأين 13 و14).
ومع الاستمرار في قراءة المبادئ والنظر في المبدأين 13و14 اللذين تمت الإشارة إليهما، نجد أن المبدأ 13 يقرر: أن الأصل عدم استخدام القوة، لكنه ينتهي إلى جواز استعمالها في الحد الأدنى الضروري (في تفريق التجمعات التي تكون غير قانونية، ولكنها لا تتسم بالعنف، يتفادى الموظفون المكلفون بإنفاذ القوانين استعمال القوة، أو حيثما لا يكون ذلك ممكنا عمليا يقيدون استعمالها إلى الحد الأدنى الضروري).
أما المادة 14 من مبادئ استعمال القوة من الموظفين المكلفين بحفظ القوانين، فإنها تعالج مسألة إطلاق النار على المتظاهرين بشكل غير نظامي، والذين استخدموا العنف في تظاهراتهم، فتنص على أن استعمال الأعيرة النارية في تلك الحالة ليس هو الأصل، لكنه مع ذلك يجوز في أشد الحالات ضرورة، وهذا نص المبدأ: (في تفريق التجمعات التي تتسم بالعنف لا يجوز للموظفين المكلفين بإنفاذ القوانين استعمال الأسلحة النارية إلا إذا كان استعمال وسائل أقل خطورة غير عملي، وألا تستعمل إلا في أضيق الحدود الضرورية).
هذه النظرة السريعة في المصادر الحقوقية الدولية تنتج لنا حكما قانونيا، وهو: أن المواثيق الدولية تعتبر التظاهر حقا متى كان وسيلة للتعبير، أما حين يتجاوز هذا الأمر فيصبح وسيلة للتغيير فإنه لا يعد حقا؛ لأنه يكون حينذاك متجاوزا حدود القانون الذي نصَت المواثيق على وجوب انضباطها به. وهذا ما يفسر لنا القمع الذي تمارسه الدول الغربية على المتظاهرين حين يتجاوزون حدود الإذن بالمظاهرة، أو حدود ما نظمت المظاهرة من أجله. ومن هذا السرد يتبين خطأ المتحمسين للمظاهرات، والذين كان دأبهم الإطلاق في تبجيلها والدعوة إليها، والاستخفاف والتجهيل لمن أفتى بتحريمها من أهل العلم؛ فها هي دول الغرب التي اتخذها هؤلاء أسوة فيها تجيز أنظمتها قمعها إلى حد إطلاق الرصاص على فاعليها، حين لا يأخذ تنظيمها مساره القانوني، أو حين تخرج عن هذا المسار.
كما يتبين لنا خطر الانخداع بالدعاية الغربية والانسياق الشديد وراء ما يزعمونه من قيم ومثل، فإن معيار القيم والأخلاق عندهم هو النفعية المادية، فما يحقق لرأس المال لديهم الأمن والزيادة فهو الخلق الرفيع والقيمة المثلى، وإن كان على حساب الأمم والشعوب والمستضعفين، وأي فهم للقيم الغربية خارج هذا السياق فهو فهم خارج السياق أيضا.
والمخرج العادل أن نقول: إنه حين لا يسمح نظام دولة ما بالتظاهر مطلقا، فهذا حق لتلك الدولة يجب على المواطن والمقيم التزامه، كما يجب على المتحدث من خارج تلك الدولة احترامه؛ لأن المنظّم في الدولة المانعة يرى أن التعبير بطريق التظاهرات مفض للفوضى حتما، أو مفض لانتهاك حقوق أكبر، وهذا أمر تؤيده التجربة التاريخية والمشاهدات الواقعية. كما أن من منع منها مطلقا دون نظرٍ إلى الأنظمة المحلية المختلفة في كل دولة، فقد افتات على من لا يحق له الافتيات عليه. ومن جعل دول الغرب مثله الأعلى فقد أغرب في المثل.