ونحن نحتفل باليوم العالمي للغة العربية، الذي يوافق الـ18 من ديسمبر من كل عام، عادت بي الذاكرة إلى الوراء قليلا، يومها كنت أتابع وزيرة خارجية النمسا «كارين كنايسل» وهي تستهل كلمتها أمام المجتمعين في الأمم المتحدة باللغة العربية، أتذكر أنها قالت عن لغتنا العربية، إنها واحدة من أهم 6 لغات معترف بها في الأمم المتحدة، وإنها جزء من الحضارة العربية المهمة، وإنها لغة جميلة ومهمة، ساعتها وأنا أستمع إلى كلامها، كان يملأ نفسي حزن مصحوب بغضب على أبناء لغة الضاد، وأنا ألمس عقوقهم تجاه لغتهم العربية، اللغة الأم، ألسنا نقول إنها «اللغة الأم»، فحينما يكون الجحود والنكران لهذه الأم من أبنائها، فدون شك لا يمكن تسمية ذلكم السلوك إلا أنه «عقوق»، ومن عجب أن لغتنا العربية التي هي صلب هويتنا الثقافية، بدلا من أن يعتد بها أبناؤها العرب ويتمسكون بها، مثلما أهل إنجلترا يعتدون بلغتهم الإنجليزية، وأهل باريس يرفضون التحدث بغير لغتهم الفرنسية، فإنها تواجه العقوق على ألسنتهم، حينما يتعمد بعضهم عند الحديث بلغته العربية، أن يأتي بكلمة إنجليزية، مع أن ما يساويها وأجمل منها في التعبير وفي المعنى متوافر في لغتنا العربية الجميلة، لكن بعض المتحذلقين المتفلسفين يرون أن حضورهم بشكل لافت عند مقابلة الآخرين، والتحدث معهم، وكي يبدوا «عصريين» في أن يطعّموا كلامهم بمفردات إنجليزية، بعد أن يطيلوا في موسيقى «التنحنح» وكأنهم يبحثون عن كلمات في أعماق البعيد عن ترادف هذا المعنى أو ذاك، فيصعب عليهم إيجاده في لغتهم الأم، بينما يعثرون على الكلمة في اللغة الأجنبية!، وكأن هذا من متطلبات التحضر أو التقدم كي يثبتوا أنهم تنويريون -بحسب فهمهم- وأنهم يمتلكون الحديث بلغة أجنبية أخرى!
فيدخلون بين الكلام بلغتهم العربية كلمات إنجليزية، ليبدوا أمام الآخر أنهم فاهمون، متعلمون، متفلسفون.
فبدلا من أن يقول أحدهم «مرحبا» يقول «ألو»، وبدلا من أن يقول «أنا متأكد» يقول «آيم شور»، وبدلا من أن يقول «الموسم القادم» تسمعه وهو يلوي عنقه يمنة ويسرة يقول «نكست سيزن»، وبدلا من «أين ستذهبون نهاية الأسبوع؟»،أصبحت المفردة الدارجة «أين ستذهبون هذا الويكند».
وخذ من هذه الانتكاسات التي تنبئ أن الشخص الذي هذا تعامله مع لغته العربية في أحاديثه مع الناس، بقدر ما يرى أن ذلك يجعله شخصا متفردا عصريا في أنظار سامعيه، فإن ذلك يسيء إليه كثيرا، لأنه قد أساء في حق لغته الأم، التي كان يجب أن يعبّر بها، وكم شاهدنا فنانين ومغنين، وإعلاميين، وهم يظهرون على شاشات الفضائيات العربية بهذا المظهر المضحك، وهم يضعون حشوات لمفردات إنجليزية بين كلامهم بالعربية، وهم يعلمون أنه لن تعجز اللغة العربية ببحرها الواسع أن تلبي حاجتهم في أن يعبّروا في أي مجال أرادوه، فهي كما قال عنها المستشرق الألماني فيرتاج «اللغة العربية من أغنى لغات العالم»، وهي كذلك تعد من أجمل اللغات في العالم بدون مبالغة.
وهي لغة القرآن الكريم، التي لا تُقبل الصلاة إلا بها، وفهمها وتعلمها، يعطي فرصة لفهم الدين الإسلامي، وقد أدرك المستشرقون الغربيون والمفكرون في بلاد العالم، أن أجمل اللغات في العالم التي تقدم أدق لغة فيها جمال التعبير والمعنى لأي موضوع، هي اللغة العربية، لذلك لم يتوانوا في تعلمها ودراستها، ومحاولة فهمها، وكم أخذت من اهتمام كثيرين من المثقفين الغربيين، خاصة المستشرقين الغرب الذين اهتموا بدراستها وتعلمها والبحث فيها وعنها.
ومع الأسف، إن العقوق تجاه اللغة العربية، لا يبدو على ألسنة أبنائها فحسب، لكنه كذلك يبدو لنا في اللافتات التي تعلو معظم «المحال» في مراكزنا التجارية، وتحمل أسماء لمعالم غربية، أو لعلامات تجارية عالمية، حتى المطاعم الشهيرة لدينا تحمل أسماء من كل اللغات الأخرى، وقليل منها التي تسمّت بالعربية.
وليت أن الحرب على لغتنا العربية الفصيحة يتوقف عند هذا الحد، لكن ظهرت لنا لغة هجينة تسمى «العربيزي» وتعرف أو كما يطلق عليها «الفرانكو - آراب» فتكتب الكلمات العربية بحروف لاتينية وأرقام، تكون أقرب إلى الشبه، فمثلا يحل محل حرف العين الرقم 3، ومحل حرف الحاء الرقم 7، وهكذا، وهذه اللغة الهجين بين العربية والإنجليزية، تستخدم عادة بكثافة في وسائل التواصل الاجتماعي.
وأصحاب هذا الاتجاه لا يلحقون الضرر بلغتهم العربية فحسب، بل أيضا يضرون تعلمهم للغة الإنجليزية، أو اللغة الأجنبية، لأنهم خلقوا لغة جديدة، فلا هي عربية ولا هي إنجليزية، فهم بهذا قد ضاعوا وأضاعوا.
كنت أعتقد أننا أمام هذا العقوق، قد تم طرح القضية على بساط البحث من المختصين من التربويين «لفعل شيء ما»، لإنقاذ ضياع اللغة العربية من على ألسنة أولادنا، وليس الاكتفاء بشكوانا من ضياع اللغة العربية من الوجود وندمنا على عدم التحدث بها، لأنها لغة محفوظة بحفظ القرآن الكريم، وستبقى إلى أن تقوم الساعة، لكن كنت أتمنى أن نعمل شيئا لنحفظها وسط التحديات من «اللهجات العامية» التي باتت هي الحاضرة في كل مشهد، بحضور «الشيلات والقصائد النبطية» في كل محفل ومجلس، حتى إن مدارسنا لم تسلم من وجود منبر للشيلات واستضافة الشعراء الشعبيين.
كنت أتمنى جهودا تسعى إلى تغيير الطريقة التقليدية في تعليم لغتنا العربية وتدريسها من مدرسيها، بدلا من ذلك الجفاف والجمود، ومحاولات تعقيدها لإظهار صعوبتها، كنت أتوقع أن تعود إلى مدارسنا مادة الخط العربي، والتعبير والمطالعة، فلعل التقسيم السابق لم يعمل على تشتيت مادة اللغة العربية بوضع فروعها كما كانت، ولا جمعها في كتاب أو منهاج واحد بهدف شمولية اللغة العربية، قد أدى إلى حفظ اللغة العربية والاهتمام بها في ظل الهجمات عليها من كل حدب وصوب، في ظل وجود وسائل الإعلام الجديد الذي تعج ساحاته بالأخطاء الإملائية والأسلوبية التي أسهمت في تكريس الخطأ الإملائي بين الناس، حينما يكتب بعضهم «لحضة» بهذا الشكل بدلا من «لحظة» ويأتي بعده آخر ليكتب «يظرب» بدلا من «يضرب»، حتى انتقل الخطأ من واحد إلى آخر فشاهدنا كَمًّا مهولا من الأخطاء عند أولادنا وطلابنا لم يكن عند من سبقوهم وتعلموا اللغة العربية على أصولها.