فالأصل هو اليقين الذي لا يجوز الانتقال عنه بمجرد الشكوك والأوهام، فمن تيقن الطهارة مثلاً، وشك في الحدث، فهو طاهر، لأن هذا هو الأصل الذي كان عليه، ولم يأت يقين يبطله، وأما الوساوس والشكوك فلا يُلتفت لها، ولا يُعمل بها، يدل عليه ما جاء في صحيح البخاري أن رجلا شكا للنبي -صلى الله عليه وسلم- أنه يجد الشيء وهو في الصلاة، فيشكل عليه، فأجابه النبي عليه الصلاة والسلام بقوله: (لا ينصرف حتى يسمع صوتاً، أو يجد ريحاً)، فهذا أصل عظيم يدل على أن الإنسان لا ينتقل عن اليقين إلا بيقين مثله، وأما الشكوك والوساوس فهي أوهام، لا تقوى على معارضة الأصل، فضلا عن إبطاله، وهكذا من تيقن الحدث، وشك هل تتطهر أم لا، فهو محدث، عملا بالأصل المتيقن، وتركا للشك المتوهم.
ومن شك في طهارة ماء أو بقعة أو ثوب أو إناء، فليعمل بالأصل وهو الطهارة، ويدع الشكوك.
وإذا شك هل طلق زوجته أم لا، فلا يلتفت لهذا الشك، فالأصل بقاء العصمة، وبقاء ما كان على ما كان، ولو أصابه ماء من ميزاب أو غيره، أو وطئ رطوبة، وشك في طهارتها، فعليه العمل بالأصل وهو الطهارة، ولا تأثير للشكوك.
ومن ادعى على غيره دينا أو غيره لم يقبل منه، ما لم يثبت ذلك بيقين، لأن الأصل براءة الذمة، وعدم الدين، ومن ادعى أنه أوفى الدائنين حقوقهم التي يعترف بها لهم، لم يقبل منه ذلك، ما لم يثبت ذلك بيقين، لأن الأصل بقاء الدين في ذمته، وعدم سداده، ولهذا قال الله تعالى (فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِم)، لأنك لو لم تشهد لزمك المال، لأن الأصل بقاؤه عندك وعدم دفعه إليهم.
ومن ثبتت عبادته بدليل شرعي، فلا تنتقض إلا بدليل شرعي، لا بوهم أو شك أو تعليل أو رأي، ومن أمثلة ذلك: أن بعض المتعجلين -هداهم الله- يبطل صوم الصائم (على سبيل المثال) لكونه استاك، أو قلع سنه، أو داوى عينه، ونحو ذلك، ولو كان عالما بهذه القاعدة الشرعية، ما تجرأ على إفساد عبادة الناس بغير برهان، ذلك أن كل ما ثبت بدليل شرعي (من صومٍ أو غيره)، فإنه لا ينتقض إلا بدليل شرعي، والصائم ثبت صومه بدليل وأصلٍ شرعي، فما الدليل الذي جعل صومه فاسدا؟!
ومن تأمل هذه القاعدة، وجد فروعها كثيرة جدا، وهذا من بركة كلام النبي، عليه الصلاة والسلام، فإنه يقول الكلام اليسير، فتنحل به إشكالات كثيرة، وهو أيضا من يسر هذه الشريعة وسماحتها، وبعدها عن الحرج كما في قوله تعالى (وما جعل عليكم في الدين من حرج)، وقد رفع الله عنا الآصار والأغلال، ونهانا عن التنطع والغلو، لأن شريعتنا -بحمد الله- توافق الفطرة، وهي قائمة على السماحة واليسر والسهولة، يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ، وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلاَّ غَلَبَهُ، فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَأَبْشِرُوا..).