أخطاء لغوية وشكوك حول صحة الأماكن الجغرافية واتهامات بالعنصرية وتقليل من القيمة التاريخية واتهام للأهمية المجتمعية، كل هذا لم يثن الدكتور عيد اليحيى صاحب فكرة برنامج «على خطى العرب» من الاستمرار في مشروعه الجبار؛ جولات ميدانية تمتد لآلاف الكيلومترات ما بين حر وقر ورمل وتل وبل وجبال عتية، جولات اتصفت بملامسة الواقع على صفحة الكون لا صفحة الكتاب، تعرض فيها قائد الفريق ورفاقه إلى إصابات عديدة وورطات برية متكررة، واستمروا وكانوا ذوي عطاء.
هذا البرنامج الرائع هو أنموذج حي لما أسميه «الاشمئزاز الاجتماعي» غير المبني على شيء، يتلخص في ردات فعل مجتمعية لا يعلم صاحبها «نفسه» لماذا صدرت عنه، ولو ارتقينا كما يرتقي الدكتور عيد على أحد «المراقيب» العلية فإنا سنرى ردود فعل ينتابها بعض التباين، فكثير من الناس معارض ومنتقد، والأكثرية -وهذا مؤشر جيد- فئة معجبة مؤيدة، وهذا في الواقع حال المجتمع عندما تطرح عليه فكرة جديدة مغايرة، ويلخص سبب هذا التباين ما قاله المتنبي:
ولكن تأخذ الآذان منه
على قدر القريحة والعلومِ
والغريب الذي قد يجلي سببا آخر للرفض أنه قد يتحدث عن التجربة الجديدة المرفوضة ذاتها، لكن بعد عشرات السنين، وستوصف بالإيجابية الرائعة، والحق أن هذا الشعور الإيجابي تجاه هذا الأنموذج ليس وليد تراكمات زمنية بل هو وليد لحظته، لكن ربما -وهذا سببها- أُخفي حسدا أو خوفا أو لمآرب كثر لا يسمح المجال بحصرها.
ما يمكننا أن نستفيده من هذه التجربة الجميلة هو أنه ليس بصحيح الاستسلام أمام آراء الجمع عند توفر أمرين في نفس المبدع صاحب الفكرة، أولهما: أن الآراء المضادة أو المنتقدة لم تبن على أسس علمية أو مسوغات صحيحة فلا تهم؛ وثانيهما: أن صاحب الفكرة يسير بقناعة تامة وفقا لمعطيات علمية مثبتة؛ وهذان ينتجان استمرارية في العطاء دون النظر للنتائج «وما آمن معه إلا قليل»..
ومن زاوية أخرى فإن الاختلاف في الأمور العلمية مطلب، إنما يُرفض الانتقاد بغرض الازدراء؛ وأنا من هذا المنطلق أختلف مع منتجي هذا البرنامج في أن كلمة «خطى» تكتب ألفا ممدودة لا مقصورة، وذلك بسبب أن فعلها المضارع «يخطو» يقتضي من «واوه» أن تصير ألفا ممدودة، لكن لربما صرفوه إلى المقصورة لئلا تتحول الكلمة إلى معنى آخر، أختلف معهم لكني أحترمهم وأحفظ حقهم.
ختاما، فإن هذا البرنامج الثقافي التاريخي المجتمعي...إلخ لبنة مهمة لترميم الولاء والانتماء الوطني ومعزز أخاذ، سلس للهوية التي لا معنى لإنسان يعيش في القرن الواحد والعشرين بدونها، وفي خضم الطغيان المعلوماتي وتعدد الموارد وخطورتها فإنا بحاجة إلى مثل هذه المبادرات البناءة التي تخاطب العقول وتهذب النفوس وتصلح المجتمعات، هذا البرنامج الإيجابي ملأ فراغا كبيرا ولكن بما ينفع، وربط المجتمع بوطنهم وما تضم رماله وجباله من أيام ووقائع ومجريات كتبت على تلك الصخور بمسندها وآراميّها.. ما من شأنه استعادة قيمة للمكان في نفس المواطن، مما يولد إعجابا وحبا، وينتج أخيرا ولاء لهذه الدولة الراشدة التي جمعت بين جنباتها أحجارا بقاعها خطى ثمودية ولحيانية وحميرية، كما جمعت على أصعدتها المعاصرة «الكل» دون استثناء «سعوديون» وكأني بشعار ابن الفيصل يلوح أفقا : «ارفع راسك أنت سعودي».