لنبدأ بمقولة، إن كل فرد منا لديه قابلية للتحرش، الفارق أو لنقل العازل هو الخلفية التربوية والدينية والأخلاقية وقوة تأثيرها على الضمير، وعادة ما يكون لدى المتحرش خلل في إحدى هذه المنظومات أو جميعها، أي لديه ازدواجية في مقياس القيم، ما يطبق عليه ليس بالضرورة أن يطبق على من حوله حتى ولو كان فردا من أسرته! والفارق بين المتحرش والمتنمر خيط رفيع، ولكنه موجود، فالمتحرش عادة ما يكون ظاهرا وواضحا ضد شريحة معينة، ينقضّ عليها مثل الجنس أو العرق أو بلد المنشأ أو الإعاقة، بينما المتنمر عادة ما يكون متخفيا ويتحرك خلف قناع، ولا تهمه الشريحة بقدر ما يهمه أن الضحية هي الحلقة الأضعف التي يستطيع أن يمارس عليها نفوذه. من المسؤول هنا حين تتقدم الضحية بالشكوى وتُعامل على أنها الجاني؟! لماذا قمت بهذا؟ أو لماذا لم تقم؟ لماذا سمحت؟ ربما أعطيت إشارات شجعت الجاني، وتنهال التعليقات والأسئلة، فتتراجع الضحية خوفا أو قرفا أو ضعفا، المهم هنا أن هذا ما يشجع الغير على المسير في نفس الطريق، فهم يعلمون صعوبة الأمر بالنسبة للضحية، وتقبّل المجتمع بصمته وتغاضيه عن القضية!

التحرش يمكن أن يحدث بين رجل وامرأة، أو امرأة ورجل، أو رجل ورجل، أو امرأة وامرأة، أو بالغ وطفل، أو سويّ ومعاق، أو مواطن وغريب، أو غريب ومواطن، ولا يمكن أن يتعلق الأمر بالتحرش الجنسي كما هو المرادف السائد، لأن التحرش هو كل يتمحور كشكل من أشكال التمييز، ويشمل أي سلوك جسدي أو لفظي غير مرغوب فيه، يسيء إلى الفرد أو يهينه. بوجه عام يُعدّ التحرش سلوكا متكررا، إلا أنه يمكن أن تؤخذ بعض الحوادث الخطيرة والتي تحدث لمرة واحدة تحت هذا البند، متى يحدث التحرش؟ عند إبداء ملاحظات أو نكات غير مرغوب فيها عن العرق أو الدين أو الجنس أو العمر أو الإعاقة، بمعنى أي سبب من أسباب التمييز، عندما يهدّد شخص شخصا آخر أو يخيفه بسبب ما ذكر سابقا، عند القيام بأي اتصال جسدي غير مرغوب أو مرحب به، مثل اللمس أو الربت أو القرص، ومن الأمثلة على ذلك: حين يسخر أحد الزملاء أو الزميلات مرارا من ارتداء الحجاب أو كيفية ارتدائه أو عدمه، أو السخرية من أي لباس يعتبر جزءا من هويتك، أو يقوم مسؤول أو مدير بتقديم تعليقات غير ملائمة حول مظهرك الجسدي، أو حين يهدّد موظف موظفا آخر بعد مناقشة ساخنة، أو حين يقوم أحد بملامستك على الرغم من الاعتراضات المتكررة.

شاهدت مرة حلقة درامية تبين كيف أن المتحرش لا يهمه ما ترتديه المرأة، فإن خرجت كاشفة وقف «ينمر» عليها و«يلطشها» بالكلام الجارح والخادش للحياء، وإن تحجّبت وخرجت فعل نفس الشيء، وإن تنقّبت وخرجت فعل نفس الشيء، بل ينزل إلى كعبها وحذائها، المهم هنا أنه لا يفرّق بين الألبسة، ساترة كانت أو غير ساترة، رغم أن طلقاته النارية كانت على حسب نوعية اللباس، إلا أنه كان يفعل ذلك ليس بسبب المظهر الخارجي، بل بسبب من هي داخل أو خلف هذا اللباس، أي المرأة، وهي بالنسبة إليه الحلقة الأضعف والتي يرى أنه من حقه التسلي بها طالما أنه لا يوجد ما يردعه، ويضع الحق عليها لمجرد أنها خرجت من بيتها ووقعت في طريقه!

كنت أتمنى أن تُقام حملات توعوية من قبل الدراما العربية عن مثل هذه الحالات، ولكن حين تأتي أو تظهر، تكون في سياق العمل الدرامي، وليست هي محور العمل بمجمله! وإن ظهرت كانت كفاصل فكاهي أو مزعج في حياة الشخصية التي تدور حولها التمثيلية أو الفيلم! وفي الشارع إن صادف أن سمعنا أن أحدا يتحرش بآخر تتجه الأنظار بشكل لا شعوري إلى الضحية، هذا إن لم تكن تحمل في طياتها شرارات الاتهام والاستغراب، فتنكمش الضحية، وتسارع هاربة من المشهد لتحتمي هي وألمها في زاوية بعيدا عن أعين الناس!

أعجبتني حملة «أنا أيضا»، وحملة «انتهى الوقت»، اللتان تم إطلاقهما من قبل فنانات وإعلاميات عالميات، انتشرت هاتان الحملتان حول العالم، وخرجت كثيرات كما خرج كثيرون ممن تعرضوا للتحرش للتحدث عن معاناتهم وما سبب لهم ذلك من ألم وذل واكتئاب، وبدأت عمليات المحاسبة إعلاميا، كما تم التحفظ على كثير من الشخصيات المشهورة التي كانت تعتبر نفسها فوق القانون في هذه الدول! نعم لدينا سبل للتبليغ عن التحرّش والمحاسبة، ولكن ما نحتاجه هو دعم المجتمع بجميع شرائحه حتى تتشجع الضحية وتخرج لتعامل على أساس أنها الضحية وليست الجاني! ما نحتاجه هو حملة ثقافية فنية إعلامية واسعة تصل إلى الجميع، حتى يتم التحرك ونتخلص من هذه الآفة من جذورها.