خلال الأسبوع المنصرم وفي يومين متتاليين، كان لي لقاءان عابران بشابين سعوديين، استفزا إعجابي من مكامنه، ونثرا على يوميَّ هذين عَبَقًا وأريجا يفوحان في أجوائي حتى الآن، لولا كآبة علقت بي من حديث صاحبي الأول، ودعوني في الأسطر التالية أتلو عليكم من خبرهما طرفا غير ممل أو مخل.
ففي اليوم الأول كنت قد أنهيت بعض الأعمال في بريدة، وفي طريق عودتي إلى أوثال، شاهدت على قارعة الطريق سيارة بجانبها عُدَّة لصنع شاي الجمر، وخلفها شاب لم يبلغ الثلاثين من العمر، توقفت أمامه وطلبت منه كوبا من الشاي المصنوع على جمر الفحم، وهي مهنة أو هواية انتشرت من عامين تقريبا بشكل ملفت وكبير في مواضع تجمع الناس، أو على طرق السفر بين المدن، وهذه الفئة العصامية الجميلة لم يتركها بعض الذين شكَّكونا بكل جميل في حياتنا، وكل عزيز لدينا، حينما انبرى بعض خطباء الجُمَع محذرين من خطورة شاي الجمر وما يباع معه من تحت الموقد!، وأنها ليست سوى ستار لترويج المخدرات.
أعود لصاحبي الذي لم أتعرف اسمه الكريم، حينما دنا إلى نافذة السيارة ليناولني كوب الشاي، مددت له خمسين ريالا، وما إن تناول الورقة النقدية حتى بادرني بقوله: «قارئة الفنجان»، قلت: نعم هي ذاك، كان مُشغّل الوسائط على وضع التشغيل، ومع الصوت الخفيض استطاع الشاب التقاط بعض كلمات عبدالحليم حافظ، وقلت له: أتعرف قارئة الفنجان؟ قال بلهجة نجدية عامية: كيف! ومعناها: -بحسب سياق الحديث وطريقة النطق المعروفة والتي تحول الكاف إلى سين مرشوقة بشيء من التاء- «طبعا»، وبدأ الرجل يقرأ من حفظه بعض الأبيات بلغة عربية فصيحة وبمخارج حروف لا غبار عليها، ولم يدندن بلحن الأغنية، مما جعلني أظن أنه يحفظها بدون تلقين العندليب الأسمر، قال لي: مقدمة الأغنية وتغيير بعض الكلمات لم يعجبني، «مسرحة» الموسيقى لا تعجبني كثيرا، شدّني الرأي، فقلت له: الموسيقى التأثيرية أو التصويرية فن عريض ومهم، قال: صحيح لكن في الأفلام، والتأثيرية هذه من عندك أول مرة أسمع عنها، فقلت له: استخدمتها للتوضيح، ومقدمة اللحن كانت تحكي مشاعر الخوف فصوَّرها بليغ حمدي كما سمعت، قال: المهم أنها لم تعجبني، ناولني كوب الشاي الثاني، فقلت له: تناول معي طعام الغداء، وأعدك بديوان نزار كاملا، وكتب شوقي ضيف العَشرة عن تاريخ الأدب العربي، فقال لي: إنني على موعد مع والديَّ، ثم إني قرأت كتاب شوقي ضيف كاملا بأجزائه، وبعد الانتهاء من قراءته بِعتُه، ولدي دواوين نزار كلها، وأنبهك على اختراع اسمه الشبكة العنكبوتية، ستقرأ فيها ما لم تسمع به من قبل، الكتاب الورقي ما عاد يغري كما كان في السابق، لم أشأ الدخول معه في نقاش حول قرب انقراض الورق من حياتنا، وأنا الذي أُوهِم نفسي كل يوم أن جناب الورق في ركن ركين وحصن حصين من الانقراض أو التلاشي، سألته عما يقرأ الآن، قال: أنا متوقف عن القراءة من مدة، قلت: لِمَ؟، فأجابني: ما الفائدة من القراءة؟ هل المتعة؟! أم الثقافة والمعرفة؟! أم كلاهما؟!، أمَّا الأولى فالهمُّ أكبر من الاستمتاع، وأما الثانية: فما هي أوعية البث والنشر والإشهار التي ستستقبل إنتاج مثلي بعد القراءة؟! لا شيء، لا شيء البتة، عرفت من خلال إجابته وكمية المشاعر التي شحنها داخل كلماته، أن الموقف أكبر من أي مثاليات سأقولها في هذا الموقف، طلبت منه كوب الشاي الثالث، فناولني إياه قائلا: «والله ما تدفع ولا ريال»، ولما تحركت من عنده صرخ بي يا رجل، فعرفت أنه أعاد اكتشاف الورقة النقدية في جيبه العلوي، وَلَّيتُ عنه ولم أعقب، وأنا أفكر في كلامه الواقعي، وفي حاله الضعيف، فشاب مع هذه الملكة والحاسة النقدية، والنهم في القراءة حتى لو كان قارئا سابقا، لِمَ نفقده وهو مشروع مثقف محتمل؟! لماذا نتخذ من قاعدة «الموهبة ستعبر عن نفسها يوما» منهج عمل؟! لِمَ لا نصل إلى هؤلاء في مكامنهم، ومخابئهم؟!، هي فئة من الناس تحتاج إلى مد يد العون المادي والمعنوي، للنهوض، وربما كان نهوضهم نهوض أمة، ونهوض مجد.
الشاب الثاني، مديرا لورشة شهيرة على مستوى منطقة القصيم، كانت بداية الكلام حول جشع وكالات السيارات أثناء الفحص الدوري للسيارة وتغيير زيوتها، وأنني هنا أدفع ما يعادل العشرين بالمئة من قيمة ما أدفعه في الوكالة أو أقل، وصادق الرجل على كلامي، وأضاف أنه: توجد ميزة هنا -أي خارج الوكالات بشكل عام- وهي أن العمل يتم أمام ناظريك، وهذا أضمن مما يحدث لسيارتك في الخفاء، من هذا الحديث انطلق صاحبي يسرد عليَّ حديثه الماتع، وأخبرني أنه يعمل موظفا في إحدى الدوائر الحكومية، ويعمل هنا خارج دوامه الرسمي لأنه كما عبّر «هاوي الشغلة، ويعتبر نفسه أعظم كهربائي سيارات في الشرق الأوسط»، سألته كيف تفوِّت التنزه البري في مثل هذه الأجواء؟ فقال: إنها الأمانة، وثقة صاحب الحلال، وما شجعني على العمل مع هذه المستثمر هو أنه درس الهندسة في أميركا وتخرج فيها، ومع ذلك حينما يصعب علينا أمرٌ ما في إحدى السيارات، يأتي إلينا منقذا ويشمر عن ساعديه ويقوم بالصيانة والإصلاح بنفسه، متناسيا مع حبه وشغفه بالميكانيكا، كل الوجاهة والثراء، وهكذا هم الشباب السعودي، حينما يضع نصب عينيه التميز، ورغم أن صاحبي الشاب ابن أسرة مرموقة، إلا أن هذا لم يمنعه من صناعة مجده الشخصي الخاص به بعيدا عن أي مؤثر، وحينما نقلت سلامه لابن العم العزيز الأستاذ أسامة، ذكر لي أن هذا الشاب من أكثر الناس مروءة ونجدة، وأنه رجل يرى الحل في المشكلة ولا يرى مشكلة في أي مشكلة، وهذا ما لمسته منه، وهذا من أسرار التميز، وذكر لي ابن العم أنه يحل جميع مشاكل السيارة من على الجوال، من الإغلاق على مفتاح السيارة، وحتى كيفية التصرف حينما تخلط الماكينة الماء بالزيت.
أخيرا: أصدقكم القول، لم أستطع كتابة أي من كلمات «شاي» في المقال كما كُتبت من أول مرة، وذلك أني أكتبها «شاهي» ثم أعود لتعديلها حتى لا أعكر مزاج بعض الأصدقاء المتقعرين، أشعر حينما أحذف الهاء من «شاي» وكأني أتحدث عن ماء ساخن محلى، وليس «شاهي».