الراصد والمتابع لخطابات ودعاوى كل من أراد أن يحق باطلا، أو يبطل حقا، منذ عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى يومنا هذا، يرى أنهم يأتون بخطابات ودعاوى مزخرفة، لينفذوا من خلالها إلى تحقيق باطلهم، وربما يقولون كلاما حقا، لكنهم ينزلونه في غير مكانه، لتصغى إليه أفئدة الجهال، ومن ينخدع بالألفاظ والدعاوى دون تمحيص.

وإن شئت أمثلة على دعاوى وخطابات مدعي الحقوق التي يخالفون بها الحقوق، فمنها ما جاء في صحيح مسلم أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قضى بدية من مات في بطن أمه نتيجة الاعتداء عليها بحجر، فأراد أحد أدعياء الحقوق والعدل، أن يبطل هذا الحق، بخطابه المسجوع، فقال:(يا رسول الله كيف يُضمَن من لا شرب ولا أكل، ولا نطق ولا استهل؟ فمثل ذلك يُطل) أي: يهدر، ويلغى، ولا يضمن.

عندئذ قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- له: (إنما هذا من إخوان الكهان، من أجل سجعه الذي سجع)، وهو سجع متكلف أراد به إبطال الحق الذي حكم به الشرع.

 ومنها: أن الخوارج يقولون في خطابهم من قول خير البرية، لكنهم ينزلونه في غير محله، بل يريدون به تقرير الباطل، وخديعة من تبهره الألفاظ والدعاوى دون فهم دقيق لمعانيها ومقاصدها، ولهذا لما اعترضوا على أمير المؤمنين علي -رضي الله عنه- وشاغبوا عليه، قالوا له: حكّمْتَ الرجال في دين الله، والله يقول (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّه)، فقال لهم: (كلمة حق أُريد بها باطل، إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وصف ناساً إني لأعرف صفتهم في هؤلاء «أي: الخوارج المعترضون»، يقولون الحق بألسنتهم، لا يجاوز هذا منهم، وأشار إلى حلقه... ) رواه مسلم في صحيحه.

فأهل الأهواء يجمعهم أنهم يتبعون زخارف القول ليمرروا من خلاله باطلهم، ولتصغى إليه أفئدة من تبهرهم الدعايات وزخارف الأقوال، قال تعالى (يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى? بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوه فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُون* وَلِتَصْغَى? إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُم مُّقْتَرِفُون).

 فالمستجيبون لشياطين الإنس والجن ينخدعون بالألفاظ البراقة، وأما أهل العقول السليمة فإنهم ينظرون إلى المعاني والحقائق وما تؤول إليه، فإن كانت باطلة فاسدة ردوها على من قالها، كائنا من كان، ولو ألبست من العبارات المستحسنة ما هو أرق من الحرير.

وهكذا المشاغبون في زمن أمير المؤمنين عثمان -رضي الله عنه- الذين يدّعون أنهم دعاة الحقوق والإصلاح، رفعوا شعار المطالبة بحفظ المال، والعدالة في توزيع المناصب والولايات، وإنكار المنكر، فانخدع بهم من انخدع، حتى توصلوا إلى غايتهم وهو الوصول إلى السلطة، وقتل أمير المؤمنين، ونهب المال، الذي كانوا يتباكون على حفظه، وقالوا (حلّ لنا دم عثمان، أفلا يحل لنا المال) فنهبوا المال، وسعوا في الأرض فسادا.

ولهذا فأحداث التاريخ تعود، وها نحن نرى كثيرا ممن يسمون أنفسهم دعاة الحقوق، أو الناشطين الحقوقيين، أو المعارضين، أو غيرها من الأسماء، نراهم يسلكون مسلك سلفهم الفاسد، ربما أن الفرق بينهم أن الأوائل من سلفهم يجيدون سبك الألفاظ، ليخدعوا غيرهم بها، أما خَلَفهم من أهل زماننا، فإنهم مكشوفون، لا يحسنون الخطاب، وهم مع ذلك متناقضون، يتحدثون عن خطورة التعاون مع الكفار وموالاتهم، وهم مرتمون بين أيديهم وفي بلادهم، جعلوا أنفسهم أدوات لهم، ويتخذونهم أولياء لهم، ويتحدثون عن الحقوق، وهم مضيعون للحقوق التي أمر الله بها عباده، فالله جعل لولاة الأمور حقوقا شرعية، فنبذوها وراء ظهورهم، يتحدثون عن حقوق الضعفاء والمساكين، وهم يستَعْدون عليهم الشرق والغرب، يتمنون الثورات التي تسفك بها الدماء، وتنتهك بسببها الأعراض، ويُطحَن فيها الضعفاء والمساكين، يتحدثون عن العدل والحرية، وهم واقعون في الظلم، والعبودية لأهوائهم، يقعون في التكفير لمخالفيهم، وهم لا يعرفون شروط التكفير ولا موانعه، يتحدثون عن قضايا الإسلام والمسلمين، وهم بلاء المسلمين، وأدوات أعدائهم، ولذلك لا قبول لهم في المجتمع وإنْ طال بهم المقام، ما دام أنهم مناوئون، ولا قيمة لكلامهم، لأنه ظاهر البطلان لكل عاقل، وإني أسأل الله خالصا من قلبي أن يهديهم، ويعودوا إلى رشدهم، وإلى بلادهم ومجتمعهم، فالتائب من الذنب كمن لا ذنب له، والرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل، والدنيا زائلة، والآخرة باقية، قال الله تعالى: (وإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى).