تباينت أدوار المؤسسات الإعلامية خلال الأسابيع الماضية في قضية مقتل الصحفي جمال خاشقجي، رحمه الله، وتابعنا جميعا ترنّح مصداقية عدد من المؤسسات الإعلامية العربية والعالمية على اختلاف توجهاتها، أو ما تدّعيه من توجهات بحسب الشعارات التي ترفعها في مقدمة برامجها.
والواقع يقول، إن هذه الفترة هي الفترة الأكثر وضوحا للحكم على تلك المؤسسات، واتخاذ القرارات الحاسمة تجاه كل واحدة منها، واختيار الطريقة الأنسب لتقرير حجم المساحة التي يمكننا أن نمنحها لها من وقتنا، حسبما أقنعتنا به أولا، وما تحاول أن تقنعنا به تاليا من أخبار ملفقة.
ومن تلك المؤسسات، تظهر بوضوح -كمثال خاطف- مؤسستا «الواشنطن بوست The Washington Post»، و«سي إن إن CNN» الأميركيتان، و«الجزيرة الإخبارية»، لما تمثله هذه المؤسسات من ثقل عالمي وفي أوساط المجتمعات الصحفية.
فالأوليان معروفتان بعدائهما الكامل للرئيس الأميركي دونالد ترمب منذ حملته الانتخابية، وقد ساعد على تأجيج العداء والكراهية بينهما حدة الخطابات والسياسة التي ينتهجها ترمب ضد عدد من القنوات الإعلامية الأميركية، من بينها هاتان المؤسستان، ونكاية فيه تقف في المعسكر المقابل المضاد والمعادي لكل قراراته ومواقفه، والسعي إلى شيطنة كل حلفائه وأصدقائه.
والثانية «الجزيرة» لا تحتاج إلى أي توضيح لمواقفها المتآمرة والمتخاذلة التي لم تعد تخفى على أحد.
في قضية جمال خاشقجي سقط كثير من الثقافة المؤسساتية في العمل الصحفي، وبات الانحياز هو الصفة الأكثر ظهورا فيما تقدمه كثير من المؤسسات الإعلامية التي كانت تزعم أمانتها الصحفية، وتمسكها بمبدأ الحياد التام!.
ولن أستغرب هذا في الواقع، فالأزمة الاقتصادية العالمية كانت خانقة جدا، وما تزال تضغط على العالم بأسره، وتلك المؤسسات جزء من العالم بالتأكيد، وتسعى هذه المؤسسات إلى إصلاح أوضاعها، خلال كسب الأموال من أي جهة يهمها شراء أصوات الإعلام وتسخيرها لصالحها، لكن الأمر الذي يمكن أن يكون محيرا، هو ذلك القادم من خلف الستار، والذي تمثله تلك المؤسسات المدعومة من دول غنية تتكفل بتقديم كل شيء بمعنى الكلمة!
هنا تبرز اللعبة السياسية على الطاولة، وبشكل علني، فاللغة الآن لا مجال لأن تكون مواربة بعد انكشاف الأقنعة، بالتالي فلغة الانحياز المهني لن تكون خيارا ذا أهمية لتلك المؤسسات، وهو ما يعني موت الحقيقة وانتصار الكذب والتلفيق في قاموسها.
قد تفرض السياسة شروطها على الإعلام، هذا صحيح وهو معروف عنها إذا أرادت، لكن المفارقة أن تتحول المؤسسة الإعلامية إلى دور الضد والخصم، ضاربة بالمصداقية عرض الحائط، وهذا يحدث الآن واضحا وعلى نطاق واسع في الولايات المتحدة الأميركية، ليس من أجل الحقيقة وحبا فيها، بل من أجل الانتصار لموقف الخصومة، ولتحقيق ذلك فإن تلك المؤسسات الإعلامية لن تفرق بين الحقيقة والتضليل، وسترى الأحداث من زاويتها لا من زاوية المصداقية.
يحدث هذا في مناطق كثيرة في العالم وليس في أميركا والشرق الأوسط فقط، إذ يكشف موقع مراسلون بلا حدود عن «التصنيف العالمي لحرية الصحافة، والذي يقيّم كل سنة وضع الصحافة في 180 بلدا، عن تصاعد حاد لكراهية الصحفيين والسياسيين، ولم يعد عداء المسؤولين السياسيين للإعلام خاصا بالدول المستبدة، مثل تركيا التي تراجعت نقطتين في التصنيف لتحتل المرتبة الـ«157، -2».
كما سجل المؤشر ارتفاعا عالميا في نسبة رؤساء الدول المُنتخبين ديمقراطيا، الذين لا يعدّون الصحافة ركيزة أساسية للديمقراطية، ولكن خصما تعلن نحوه البغضاء، وعلى رأس هذه الدول الولايات المتحدة الأميركية، بقيادة دونالد ترمب، إذ احتلت المرتبة الـ45 بتراجع بنقطتين، وفي الفلبين التي تحتل المرتبة الـ«133، -6» اعتاد الرئيس رودريجو ديتورتي على شتم وتهديد وسائل الإعلام الإخبارية وحذّر بالقول: أن تكون صحفيا أمر «لا يحميك من الاغتيال»، وعلى الصعيد ذاته تزايد خطاب الكراهية ضد الصحفيين في الهند على شبكات التواصل الاجتماعي.
السؤال المهم بالنسبة لي الآن هو: لماذا يتزايد مؤشر هذا العداء يوما بعد آخر، وهل المؤسسات الإعلامية حول العالم بريئة تماما من هذا الارتفاع؟ لا أظن.
الواضح جدا أن المتلقين هم الخاسر الأكبر وسط هذا التصاعد المتنامي للعداء، الذي ضاعت على إثره الحقيقة والمصداقية والمهنية، وهذا ثمن باهظ جدا ليس من السهولة تعويضه سريعا.