يميل بعض العلماء من اللغويين والأصوليين والفقهاء، إلى أن لفظتي «الخلاف» و«الاختلاف» معناهما واحد، وفي الوقت نفسه نجد أن بعضهم يفرق بين اللفظتين، ويقول إن الاختلاف من آثار الرحمة، والخلاف من آثار البدعة.
ويضيف، إن كل ضدين مختلفان، وليس كل مختلفين ضدين؛ وسواء ملنا إلى التفرقة أو عدمها فإن الخلاف -بلا أدنى شك- هو من الأحكام الكونية، ولا يزال أمره قائما بين بني آدم، منذ زمن سيدنا نوح «عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام».
يقول الحق، سبحانه وتعالى، «وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ».
من أهم أنواع الخلاف، الخلاف في المسائل الفقهية، ومردّ ذلك هو رغبة كل فقيه في الوصول إلى الحق والالتزام به، وكل فقيه يطلب الحق بطرقه ووسائله.
وشخصيا، لا يراودني شك في أن التوسع في إظهار المسائل الخلافية -خاصة في الأمور الفرعية- إنما هو «مظهر من مظاهر الهوى والعناد»، ولن يخفف منه إلا اليقين في أن التوسعة بتعدد الآراء والاجتهادات من الفقهاء الذين نوّر الله بصائرهم، كان هو السائد بينهم.
فهذا حميد الطويل، يقول لسيدنا عمر بن عبدالعزيز، إزاء تيار توحيد المذاهب وحمل الناس على اجتهاد واحد: «لو جمعت الناس على شيء»، فيرد عليه: «ما يسرني أنهم لم يختلفوا»، وفوق ذلك يكتب إلى الأمصار: «ليقضِ كل قوم بما اجتمع عليه فقهاؤهم»، بل نُقل واشتُهر عن العلماء من السلف والخلف حثهم الفرد على ترك مذهبه، أو رأيه في مسألة ما، إذا كانت هناك مصلحة هي أرجى وأنفع له، أو لغيره، وأشهر مثال على هذا الغرض النبيل، قول الشيخ ابن تيمية أثناء كلامه عن البسملة، هل هي آية أول كل سورة أو لا؟، وهل يجهر بها أو لا؟: «ويستحب للرجل أن يقصد إلى تأليف القلوب بترك هذه المستحبات، لأن مصلحة التأليف في الدين أعظم من مصلحة فعل مثل هذا».
العلماء جميعا متفقون -أو هكذا يجب أن يكونوا- على الأصول الدينية، ويعدّونها هوية الإسلام، وأمر حفظ ذلك مضمون من عند الله -سبحانه وتعالى- إلى أن يرث الأرض ومن عليها، والاختلاف الذي بينهم منحصر في الفروع الفقهية، إضافة إلى بعض مسائل أصول الدين، ولا يوجد أي اختلاف فيما هو قطعي الثبوت والدلالة، إذ إن أمر قبوله أمر حتمي.
وأختم، بأن غالب الأحكام الفقهية ثابتة عن طريق أدلة ظنية، والظنون قابلة للتعارض، وبناءً على إفادة الدليل للظنِّيَّة، كان لا بد من وقوع الخلاف، والخلاف في الفروع أمر فيه سعة، ولا يصح أن تضيق الأمة بمذهب أو برأي، بل ينبغي إن صَعُبَ عليها أحدها، أو أوقعها في حرج، أن تبحث في غيره، وتلجأ إلى سواه، ولا يقدح ذلك في الشريعة، بل يزيد في إثبات فعاليتها في إصلاح كل زمان ومكان.