الحياة مدرسة عظيمة مليئة بالمنح والمحن، تتقلب فيها الليالي والأيام، وتظهر في ظروف تقلباتها وشدائدها، أخلاق الرجال، فالناس معادن، والمعادن ليست سواء، بل منها النفيس، ومنها الخسيس، ويظهر لألباء الرجال من تجارب الحياة وحوادثها ما ينبغي، وما لا ينبغي، وما ينفع، وما يضر، إذ لا حكيم إلا ذو تجربة، ولا يلدغ مؤمن من جحر واحد مرتين.
فهذا الشاعر الفارس ابن شعلان، يقدم لنا حكمة استخلصها من المعاناة والتجارب، وهي التحذير من الذهاب إلى الشغب والتجمعات المشبوهة والهوشات، فهو يرى أن العافية لا يعدلها شيء، والسلامة من شرور الخلق مكسب، فلا حاجة للذهاب إلى أماكن لا يجني منها الإنسان فائدة، وإنما قد يبتلى إذا ذهب إليها بما يضره في دينه ودنياه، كما حصل له شخصيا، يقول في شعره العامي مستخلصا الحكمة من التجربة المريرة التي مرّ بها:
ليا شفت ضول الناس بالك تعسّه
وإن جنّبك شر المخاليق خلّه
لو عندنا من غيب الأيام رسّه
الآدمي مصلوح نفسه يدلّه
وهذا الذي توصل له ابن شعلان بالتجارب والعقل، هو ما دل عليه الشرع قبل ذلك، والعقل الصريح لا يخالف النقل الصحيح مطلقا، فالنبي -صلى الله عليه وسلم- نهى عن الذهاب للفتن والمشاكل فقال (سَتَكُونُ فِتَنٌ، الْقَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِنْ الْقَائِمِ، وَالْقَائِمُ فِيهَا خَيْرٌ مِنْ الْمَاشِي، وَالْمَاشِي فِيهَا خَيْرٌ مِنْ السَّاعِي، وَمَنْ يُشْرِفْ لَهَا تَسْتَشْرِفْهُ، وَمَنْ وَجَدَ مَلْجَأً أَوْ مَعَاذًا فَلْيَعُذْ بِهِ) رواه البخاري ومسلم، والمراد أن بعض الناس في ذلك أشد من بعض، فأعلاهم فتنة في ذلك الساعي فيها، بحيث يكون سببا لإثارتها، ثم من يكون قائما بأسبابها وهو الماشي، ثم من يكون مباشرا لها وهو القائم، ثم من يكون مع النظَّارة ولا يقاتل وهو القاعد، {والمقصود بالنظارة: المتفرجون الملاقيف}، والمراد بالأفضلية في هذه الخيرية من يكون أقل شرا ممن فوقه على التفصيل المذكور، وفي الحديث: التحذير من الفتن والإشكالات، والحث على اجتناب الدخول فيها، وإن شرها يكون بحسب التعلق بها.
وإذا كان الشاعر يذكر أنه لو كان يعلم العواقب، لاختار لنفسه ما يجنبها الشر، كما في قوله (الآدمي مصلوح نفسه يدله)، فهذا صحيح يدل عليه ما ذكره الله عن نبينا -عليه الصلاة والسلام- في قوله: (وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوء)، ولكن من رحمة الله أن دلنا على ما ينفعنا ورغّبنا فيه، وبيّن لنا ما يضرنا وحذّرنا منه، ووجهنا للتعلق به سبحانه، وطلب الهداية منه، وألا يكلنا إلى عقولنا وأفهامنا واجتهاداتنا، فقال تعالى: (يا عبادي كلكم ضالٌ إلا من هديته، فاستهدوني أهدكم)، وقد منَّ الله على نبينا بالهداية بعد أن كان لا يعرف ما الكتاب ولا الإيمان فقال تعالى: (ووجدك ضالا فهدى)، وقال تعالى: (وَكَذَ?لِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا ما كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَ?كِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا)، ونبي الله موسى -عليه الصلاة والسلام- عندما تآمر عليه المخالفون لجأ إلى الله، وسأله أن يهديه سواء السبيل، ولم يتكل على حوله وقوته، فقال: (عسى ربي أن يهديني سواء السبيل).
فاللجوء إلى الله، وعدم اتكال الإنسان على حوله وقوته، نجاة من الشرور، وإذا لم يَكُنْ عَونٌ مِنَ اللهِ لِلفَتى، فَأَوَّلُ مَا يَجنِي عَلَيهِ اجتِهَادُهُ، ثم إن فعل ما أمر الله به ورسوله سبب للنجاة من الورطات التي يندم بسببها الإنسان، فالفتن والغوغاء والتجمهر وتدخل الإنسان في ما لا يعنيه، منهيٌّ عنها شرعا، والأحاديث في ذلك كثيرة ومعلومة، ولسنا بحاجة لتجارب وأخطاء لنعلم الحقيقة بعدها، بل الحقيقة جاء بها نبينا -عليه الصلاة والسلام- بيضاء نقية، وما طائر يقلب جناحيه في السماء إلا ذكر لنا منه علما، فما علينا إلا اتباع هديه وتوجيهاته عليه الصلاة والسلام، فقد كُفينا المؤنة، وعلينا فعل ما وعظنا الله به ورسوله، لأن ذلك هو الخير والثبات على الحق، وهو الهداية والأجر العظيم، قال تعالى (وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا * وَإِذًا لَّآتَيْنَاهُم مِّن لَّدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا * وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا)، نعم التجارب والوقائع وفقه المآلات نستفيد منها للعبرة، لكن ليست هي المصدر في معرفة الصواب والخطأ في الأمور الشرعية، إذ ليست كأمور الطب والتقنية والابتكارات ونحوها التي تخضع للبحث والتجارب.