لا أجد فيما يُقدم عليه بعض قائدي السيارات من الشباب، وهم يحاولون رمي أنفسهم وسياراتهم في مواجهة غير متكافئة مع السيول الجارفة في محاولة فاشلة لاجتيازها، وخوض غمار أمواجها العاتية، أية مغامرة، لينالوا من وراء هذا العمل الخطير، إعجاب الذين يراقبونهم وهم يجازفون بأنفسهم في مغامرة خطرة، وهم يلقون بأنفسهم إلى التهلكة.
ليس فيما يحدث مغامرة، بل أرى أن كل من يقوم بهذا العمل يضع نفسه في مأزق خطير إلى حد الإشفاق عليه، نتيجة العواقب الوخيمة التي قد تلي مغامرته المحفوفة بالمخاطر، بدليل أنه ما إن يتقدم أحدهم بسيارته داخل السيل أمتارا وتعلق سيارته، حين تبدأ أمواج السيل بوقفه وصده وربما قلب سيارته رأسا على عقب، حتى يبدأ بعد البطولة الخاسرة أو الفاشلة في «تسّول» الذين يراقبونه على ضفتي الوادي من الجماهير الحاضرة، «عملية إنقاذ» واحدة وسريعة، وإلا سيهلك مكانه!، أما سيارته، فالخلف على الله، فقد ضاعت!
ومع هذا المشهد التراجيدي الذي نصدم به بين وقت وآخر، فعلى مسرح المغامرة يبدو لنا مشهد آخر هو أقرب إلى المشهد الكوميدي، ونحن نرى الحشود التي تجمهرت لمشاهدة من يخاطرون بأنفسهم لعبور السيول، وهم يبدؤون في محاولات الإنقاذ لمن تورطوا داخل السيول، فنشاهدهم وهم يقومون بربط «أشمغتهم» ببعضها، ثم يحاولون رميها علّها تصل العالق في السيل، ويأخذ هذا المشهد المسرحي دقائق قد تطول، وقد حُبست خلالها الأنفاس، والمنقذون يكررون عملية رمي أشمغتهم مرات ومرات، وكل ذلك يدور وخلفية المشهد أصوات المتجمهرين، وقد علت بصراخ يبدو هستيريّا، مرات لتوجيه العالق في السيل لفعل شيء ما، ومرات للمنقذين، وجميعها تزيد من صخب الجو وحرارة الموقف «قف، لا تقف، اقفز لا تقفز، أسرع، لا، لا تسرع، غادر السيارة، اصعدْ أعلاها»... وهكذا، مع أنه كان يمكن للعالق في السيل إنقاذ نفسه من البداية بعدم المجازفة والدخول في تحدي السيل، فأمواج السيول الجارفة، لا تُصارع، ولا تقبل من يتحداها، لكن من يتعظ أو يعقل؟
ألم تقل العرب «والعاقل من اتعظ بغيره»، فكم من السيول الهادرة اختطفت أنفسا، ودفنت أجسادا في تربها، وجرّت سيارات وتلاعبت بها، كأن تدفعها وكأنها لعب صغيرة، وهدّت منازل، وقذفت أحجارا، ومع هذا فهناك من يحاول تحدي السيول، عجيب!.
مع الأسف، إن مشاهد تحدي السيول ومحاولات عبورها دون أدنى حاجة للقيام بذلك العمل الخطير سوى الرغبة في كسب الإعجاب وتصوير المقاطع، نراها تتكرر كل عام، رغم الفواجع، مما يجعل الجهات الحكومية المعنية في مثل هذه الظروف تنشغل عن مهمتها الأصلية بسبب هؤلاء المغامرين، ثم إن المرء ليتساءل: ما ذنب أسرهم حينما يدخلون في حالات من القلق والترقب والحذر مما يفعله أبناؤهم بهم، قد يقول قائل: هذه ثقافة مجتمع، ونحن نسأل: ألم يحن لتلك الثقافة أن تصّحح، أو تتغير ضمن المتغيرات التي طرأت على المجتمع؟، ولو سلّمنا أن هذه ثقافة مجتمع، فلماذا نجد من يلتزم بالأنظمة خارج بلاده سواء كانت أنظمة مرورية أو أنظمة للمحافظة على البيئة، أو أنظمة للتقيد باللباس المحتشم، أو أنظمة تدعو للسلامة، بينما في بلده، كل تلك الأنظمة والقوانين التي تعد مثالية وجيّدة، ووضعت لسلامة الناس والحفاظ على أرواحهم وممتلكاتهم «تُخرق وتُخالف!»، وبنوع من «العبط والتحدي»، وحينما نشاهد تلك المخالفات والخروقات، نقول إنها ثقافة مجتمع، وكأننا نبرر لهم؟!
ما زلت أتذكر أن أحد أعضاء مجلس الشورى عام 2017 قدم مقترحا لمعاقبة المستهترين الذين يخاطرون بأرواحهم وسياراتهم في السيول، ولست أعلم هل هذا المقترح قد أفضى إلى إضافة قرارات وقوانين لمعاقبة كل من يخاطر بعبور السيول في لوائح الدفاع المدني الذين يعاني رجاله كثيرا من استهتار أولئك المغامرين، ويصرفهم عن مهامهم الأصلية، وقد يقعون في مخاطر بسبب محاولاتهم إنقاذ المتورطين في السيول!، لا أعلم، لكن كل ما أعلمه أن كثيرا من الجهات، منها الدفاع المدني، والنشرات الجوية لهيئة حماية الأرصاد والبيئة، والمهتمون بأحوال الطقس والمناخ، عادة ما ينبهون بضرورة أخذ الحيطة والحذر، وتجنب الذهاب إلى الأودية الكبيرة أو الجلوس فيها، وعدم محاولة الدخول في تحد مع السيول والمجازفة لعبورها، ومع هذا فهناك من لا يريد أن يسمع أو يعقل!.
وهنا، لا أريد أن أحصر رأيي فقط في «العقوبات»، بقدر ما أتمنى كذلك أن يكون لمؤسسات المجتمع التربوية، في مقدمتها المدرسة، دور تربوي وتوعوي يمارس بشكل جدّي، لتثقيف أبناء المجتمع والطلاب بضرورة المحافظة على أرواحهم، فدينهم الإسلامي العظيم جاء ليحفظ للإنسان خمسة أشياء «الدين النفس العقل العرض والمال»، وتحذيرهم من الانجرار خلف مشاهد تحدي السيول ومجابهتها، والتي قد تجعل أحدهم يفقد حياته بسبب أن هناك من سيصفق له إعجابا، مع أن هذا المعجب لن يقوى على إنقاذه فيما لو جرفته السيول، ولن يكون بوسعه أن يفعل شيئا أكثر من الاكتفاء بالتفرج على المشهد بحسرة، فكفانا فواجع يا أبناء وطني!.