نسير بخطوات سريعة نحو التنمية، خاصة وفق مخطط التنمية المستدامة لجمعية الأمم المتحدة ورؤية 2030 الوطنية، حيث وضع كلاهما التعليم والتعلم والتدريب على رأس قائمة الأولويات، وهذا ليس أمرا يخص الوطن فقط، بل يخص كثيرا من دول العالم، سواء الآمنة أو الخارجة من الحروب والدمار، لأن التعليم والتعلم من أهم الأوليات إن أرادت أي دولة تحقيق التقدم والتنمية، وإن كان هدفها تحسين نوعية حياة الفرد فليس أفضل من هكذا مجال تبدأ به كالتعليم والتعلم، الذي بدوره يؤهل جميع شرائح المجتمع لمواجهة الصعوبات والتحديات، ليس هذا فحسب، بل التقدم من حيث الإنتاج والإبداع في جميع فروعه، ونحن نعلم أن المملكة العربية السعودية ماضية في هذا الطريق رغم الصعوبات التي تواجه وزارة التعليم من إرث ثقيل تراكم على مدار عقود من القضايا والمشكلات التي تستوجب حلها من الجذور، حيث لا يوجد أي وقت من أجل التجريب أو الفتق والرّتق، ما نحتاجه اليوم كوطن يتطلع للانضمام إلى الصفوف الأولى لدول العالم المتقدم، أن ينطلق لتحقيق تعليم نوعي، وهذا يستوجب على كافة شرائح المجتمع أن تقف وقفة رجل واحد وتمد يد العون والمساندة، ولا يتأتّى هذا إلا من خلال الشعور بالمسؤولية المجتمعية وتكافل الجميع من أجل تحقيق أهداف سامية، مثل الارتقاء بالتعليم، وبالتالي الإسهام في نهضة البلاد، ومن هنا أجد أنه حان الوقت للعودة إلى فكرة قديمة جديدة، ألا وهي الوقف الخيري.
إن نظرنا إلى المعنى اللغوي لكلمة «وَقْف» وجدنا أنها تعني «الحبس أو المنع»، والمقصود هنا تكريس ملك خاص ما، مثل بستان أو عقار أو حتى آلة حتى يستفاد من ريعها في خدمة قضية أو مشروع ما، والفكرة دخلت مع الإسلام من أجل التكافل الاجتماعي، والإسهام في بناء المجتمع وحمايته من خلال الإنفاق، وليس فقط من باب الزكاة أو الصدقة التي هي وقتية، بل تمتد فائدتها على مر السنين، وقد يصل الأمر إلى عقود وقرون، وقد كانت في بداية ظهورها جهود شخصية، يقوم عليها إدارة وإشرافا وتنفيذا صاحب الوقف ذاته، ثم تطور الأمر عبر الحضارة الإسلامية، وفي العصور المختلفة، سواء كانت أموية أو عباسية أو عثمانية، فنمت حتى أصبحت تحت إشراف هيئة أوقاف يقوم على تفعيلها وضبطها ديوان مستقل، وإلى يومنا هذا حيث أصبحت لها وزارة تُعنى بشؤونها، والجميل أنها كانت تشمل كثيرا من المساعدات، من آبار، ودور أيتام ولقطاء، ومستشفيات مجانية، ومدارس علوم، ودور تعليم وحفظ القرآن الكريم والأحاديث النبوية الشريفة، وإطعام عابري السبيل، ودفع ديون السجناء، وتزويج الشباب، وإعانة العجزة والمقعدين، حتى أواني الخدم التي تُكسر كان لها وقف يسهم في دفع المبلغ للخادم حتى لا يعنّفه معلمه أو صاحبه، ولم يتم نسيان حتى قطط الشوارع وكلابها، لقد كانت الأوقاف تشمل كل ما يخطر على البال من مساعدات من الإنسان إلى الحيوان إلى النبات إلى الجماد، وكما يقول الأديب حسن م. يوسف «أستطيع القول من دون تردد إن الوقف من أجمل وأنبل الأفكار التي قدمتها الحضارة العربية الإسلامية، فإذا كان حلف الفُضول، الذي أقيم في مكة قبل الإسلام، هو أقدم جمعية للدفاع عن حقوق الإنسان كما يرى الدكتور جورج جبور، فإن الوقف هو أقدم منظمة للمجتمع المدني في تاريخ البشرية، بل إنه من أرقاها وأكثرها إنسانية».
ورغم أن الوقف الخيري فكرة نبعت من الحضارة الإسلامية إلا أنها انتقلت إلى الدول الغربية منذ مئات السنين، حيث أبدعت هذه الدول في تداول هذه الفكرة وتطويرها وتحويلها إلى مؤسسات كبرى تتمتع بالشفافية وتقف تحت محاسبة حازمة، وهذا ما أكسبها المصداقية وأعطاها بعدا مجتمعيا قويا يدفع الأغنياء وحتى متوسطي الدخل منه إلى الإسهام والدعم والمشاركة كلما أمكن ذلك، فبمجرد مرور بسيط على أكبر جامعات الغرب وأقواها نجد أن ثلث دخلها تقريبا يأتي من مدخول الوقف الخيري، وبهذا استطاعت أن تستمر في التطوير والتقدم في جميع المجالات، خاصة البحث العلمي، هذا إلى جانب تقديم المساعدات للطلبة وطرق تخفيف عبء تكاليف الدارسة عليهم، وهذا لا يعني أن الوطن العربي ليست فيه مؤسسات تعليمية قامت في الأساس على وقف خيري، من المغرب العربي إلى القاهرة إلى بغداد إلى السعودية، حيث نجد أن جامعة الملك عبدالعزيز أسست على وقف خيري قبل أن تستلمها وزارة التعليم العالي، واليوم كثير من مشاريعها إضافة إلى جامعة الملك سعود تقوم في الأساس على أوقاف خيرية.
ما أريد الوصول إليه أن كثيرا من مؤسسات التعليم العام والتدريب والتعليم العالي بحاجة إلى أن ندخل فكرة الوقف الخيري إلى داخل جدرانها، من معامل، وبحث علمي، وملاعب، ومكتبات، وأدوات مدرسية، وبرامج تطويرية وتدريبية، ووجبات طعام، وكساء ومسكن ومواصلات... إلخ، ولو أن كل مجتمع محلي اهتم بجمع الأموال وشراء وقف تجاري يعود ريعه على هذه المؤسسات وبرامجها واحتياجاتها، تحت رعاية مؤسسة ذات مصداقية وشفافية في المتابعة والمحاسبة، بحيث يستطيع أي فرد من ذلك المجتمع الدخول والتأكد من المكاسب والمصاريف، لو استطعنا أن نقوم بذلك لتمكنّا من التقدم بخطوات أسرع، وبدلا من أن نقف ونشتكي من ضعف الخدمات أو قلة الموارد، نكون نحن من يفتح المجال أمام تفعيل هذه الخدمات وتقديم الموارد المالية، ليس عيبا ولا حراما أن نقف مع وزارة التعليم، من حقنا أن نحاسبها، ولكن من واجبنا أن ندعمها، ولنتذكر أننا حين نسهم يصبح لنا مدخل إلى المحاسبة والرأي والمشاركة في اتخاذ القرارات التي نراها كمجتمع في مصلحة أبنائنا، وبدلا من أن ننتظر الفرج من الوزارة نكون نحن الفرج بعد الله، سبحانه وتعالى!.