منذ الثمانينات عمل المجتمع الدولي -وعلى رأسه خبراء الاقتصاد- على تقديم مفاهيم اقتصادية جديدة تهدف إلى تحسين الوضع الاقتصادي في العالم، وتحويله من ممارسات استهلاكية إلى ممارسات تدويرية.
وكان الاقتصاد الأخضر من أبرز هذه المفاهيم، لكنه خيار مكلف ويتطلب استثمارات ضخمة، لذا يظل امتيازا للقلة القادرين على تحمل تكاليفه. ومن هذا المنطلق سعى خبير الاقتصاد البلجيكي جانتر بولي، خريج كلية أنسياد لإدارة الأعمال، والملقب بستيف جوبز الاستدامة، إلى إيجاد حل لذلك من خلال الإجابة عن السؤال الذي طرحه على نفسه: ما نموذج العمل التجاري التنافسي الأمثل الذي يمكن أن نصممه، والذي سيسمح لنا بتطبيق ممارسات مستدامة تحقق لنا في آن الوقت توفير الاحتياجات الأساسية باستخدام المواد المتاحة؟.
وكانت الإجابة بابتكار مفهوم أطلق عليه مفهوم الاقتصاد الأزرق، والذي قام بتوثيقه في كتابه المعنون «الاقتصاد الأزرق: 10 سنوات، 100 ابتكار، 100 مليون فرصة وظيفية». سعى جانتر بولي من خلال كتابه إلى تسليط الضوء على أهمية الإدارة المستدامة للموارد المائية استنادا إلى فرضية أن النظم الإيكولوجية السليمة للمحيطات هي الأكثر إنتاجية، وهي ضرورية من أجل استدامة الاقتصادات القائمة على المحيطات. وبعد نشر كتابه بسنتين تم التطرق لهذا المفهوم ومناقشته رسميا في مؤتمر الأمم المتحدة المعني بالتنمية المستدامة (ريو 12) والذي عقد في يونيو 2012 في ريو دي جانيرو في البرازيل، ليصبح ذلك المؤتمر مرجعا رئيسا عند الحديث عن هذا المفهوم.
إن المحيطات تشكل الجزء الأكبر في النظام البيئي لكوكب الأرض وأكثر النظم تنوعا، وبالتالي أعلاهم إنتاجا إن وظفت بشكل صحيح. كما يسمى الكوكب الذي نعيش فيه بكوكب الماء، وذلك لأنه الكوكب الوحيد من كواكب المجموعة الشمسية الذي يوجد به الماء بنسبة تشغل قرابة 71% من مساحة وسطح الأرض. بالرغم من أن المحيطات تغطي ما يقرب ثلاثة أرباع سطح الأرض، وهي موطن لأكثر من نصف المخلوقات الحية، قد يعتقد البعض بأن الموارد المائية غير محدودة، وهذا ليس صحيحا. كما أن أغلب الممارسات التجارية والصناعية الحالية تعد ممارسات غير مستدامة وعشوائية، بل ومضرة لاستدامة هذه الموارد، وذلك لعدم وجود مظلة تحدد الأبعاد الاقتصادية والسياسية والقانونية لممارسة الأنشطة المتعلقة بالمحيطات والموارد البيئية. وقد قام الصندوق العالمي للطبيعة بنشر تقرير لتقدير القيمة الاقتصادية العالمية للخدمات والمواد المائية لتبلغ 1.5 تريليون دولار في السنة، مما يجعل الاقتصاد المنبثق عن الموارد المائية يطابق سابع أكبر اقتصاد في العالم، وقد يتضاعف ذلك إن طبقنا آليات ممنهجة تضع بعين الاعتبار استدامة المحيطات. ففي دول الاتحاد الأوروبي وحده، وفر الاقتصاد الأزرق ما يقارب 6 ملايين وظيفة، ويعملون ضمن إستراتيجية إقليمية لزيادة ذلك ليصل عدد الوظائف إلى 10 ملايين وظيفة بحلول عام 2020. وقد ركزت جمهورية الصين في الآونة الأخيرة على تطوير إستراتيجية الاقتصاد الأزرق لديهم، وخصصوا خطة تجريبية لتنفيذ المشاريع المتعلقة بالنشاطات البحرية في عدة مقاطعات، مثل شاندونغ وتشجيانغ وقوانغدونغ، وجاء ذلك بعدما لاحظت الصين ازدياد حجم الإنتاج البحري بنسبة 10% سنويا.
ويمكن تعريف الاقتصاد الأزرق على أنه من المفاهيم الاقتصادية الناشئة التي تهدف إلى رفع مستوى رفاهية الإنسان من خلال الاستثمار في الموارد المائية والصناعات والمجالات المتعلقة بالمحيطات، بتطبيق أساليب تنموية ومبتكرة وصديقة للبيئة. بالإضافة إلى أن هذا المفهوم يخدم تحسين الاقتصاد من خلال خلق قطاعات جديدة، وبالتالي فرص وظيفية جديدة، فإنه أيضا موائم للأجندة العالمية للتنمية المستدامة 2030 وبالتحديد الهدف 14 والمرتكز على حفظ المحيطات والبحار والموارد البحرية.
ركزت المملكة العربية السعودية في الآونة الأخيرة على مشاريع غير نفطية لتنويع الاقتصاد، وجاء في مقدمتها القطاع السياحي، حيث إن المملكة أعلنت أخيرا عن مشروع أمالا العالمي الذي يقع على ساحل البحر الأحمر إلى جانب مشاريع نيوم والبحر الأحمر.
تعتبر مشاريع نيوم والبحر الأحمر وأمالا معالم سياحية جديدة تنضم إلى محفظة المشاريع التي أطلق عليها أخيرا مشاريع ريفيرا الشرق الأوسط. تعد هذه المشاريع الضخمة أساسية لتحقيق التنوع الاقتصادي ورفع الناتج المحلي الإجمالي للمملكة من خلال قطاع السياحة في المقام الأول، ومن ثم القطاعات الجديدة التي سيكون لها تواجد بارز كالذكاء الاصطناعي والطاقة المتجددة. يوجد في ريفيرا الشرق الأوسط الواقعة في الساحل الشمالي الغربي للمملكة العربية السعودية كنوز دفينة ليست فقط على السطح، ولا تقتصر على القطاع السياحي، بل تشمل جميع القطاعات. إن لوجود البحر في هذه المنطقة فرصة كبيرة لخلق مصدر دخل جديد بالإضافة إلى قطاع السياحة، عن طريق تنفيذ مشاريع ريادية ومبتكرة، والاستثمار في الموارد المائية المتاحة، وإنشاء إستراتيجية محلية أو إقليمية تحدد آلية لتطبيق الاقتصاد الأزرق، وتحدد الفرص المتاحة من خدمات وموارد يمكن استثمارها لخدمة قطاعات مختلفة، كالغذاء والطاقة والطب والتعدين والملاحة والصناعات البحرية، وغيرها من الفرص التي بلا شك ستخلق مصدر دخل جديدا، وفرص عمل تخدم الأهداف المراد تحقيقها فيما يتعلق بتنوع الاقتصاد والاستدامة.