كان السؤال الأكثر إلحاحا لدى جميع السعوديين وكثير من محبي السعودية هو: لماذا تتعرض السعودية لهذا القدر من الهجوم؟، وهل لو جرت قضية خاشقجي -رغم فداحة الخطأ فيها- بالتفاصيل نفسها أو أشد في دولة أخرى غير تركيا، ومن دولة أخرى غير السعودية، يحتشد لها كل الأطراف بهذا الشكل؟
إن تسميم الصحفي الروسي وابنته في بريطانيا 2018، وقتل الصحفي الإيطالي ريجيني في مصر 2016، وغيرهما، أحدثا -دون شك- صدى عالميا، وترتبت عليهما تداعيات تم تصعيدها دبلوماسيا، ثم احتُويت عبر القنوات نفسها، ووسائل الإعلام فارت فورتها الطبيعية ثم انحسرت، ولكن أن تفرِّغ وسائل إعلامية دولية ماكينتها الضخمة ليلا ونهارا، وبضخ مكثف عبر قنوات استخباراتية مفتوحة لدول ووسائل إعلامية معينة، وبصورة واضحة ومكشوفة، وليس كالأسلوب المعتاد لتسريب استخباراتي خفي لمعلومة لهذه الجهة أو تلك، يعد أمرا غير مسبوق.
هذه الهجمة المحمومة على السعودية لا يمكن إرجاعها إلى الهجوم التقليدي الذي تتعرض له السعودية، سواء من بقايا اليسار العربي واليسار الغربي الاشتراكي تحديدا، أو من بقايا القوميين العرب، أو أصحاب المواقف المسبقة وأصحاب الصورة النمطية، وكذلك أصحاب النظريات الأيديولوجية الأممية، الذين لا يعترفون بالدولة القُطْرية ويسعون إلى دولة أممية أيديولوجية، وحتى في مشروع أوباما للشرق الأوسط الجديد الذي كان يهدف إلى إقامة ثلاث دول محورية في المنطقة، هي: إيران وتركيا وإسرائيل، مع تقويض الحكومات العربية، بما فيها السعودية، لم تعمل مخابرات الدول وحكوماتها والماكينات الإعلامية الضخمة بصورة مباشرة جنبا إلى جنب، في هجوم سافر ومكثف على السعودية كما هو الحال في قضية خاشقجي.
لذلك، يظهر السؤال المدبب في كل لحظة: ما السر في هذا الهجوم وبهذا الشكل على السعودية؟.
من المؤكد أن المثلث الحاكم في قطر «تنظيم الحمدين، أذرعة الإخوان، خلايا عزمي» ليس لديه القدرة على ذلك وإلا لاستخدمها، ولا الصحف الأميركية التي أرادت تصفية حساباتها مع ترمب عبر الهجوم على حلفائه، وعلى رأسهم السعودية، واستخدموا قضية خاشقجي كمخلب قِطّ في قضيتهم مع الرئيس الأميركي، خاصة بعد الحملة التي قادتها بوسطن جلوب، ونيويورك تايمز، وأكثر من 300 صحيفة أميركية ضده في موضوع حرية الصحافة، ولا بد أن هناك معطيات قديمة ولكنها نضجت مؤخرا، أو أن الظروف الجيوسياسية عجّلت بظهورها، وهي تتركز في هدفين اثنين:
الأول: خشية اللاعبين الكبار الدوليين والإقليميين من ظهور لاعب قوي ومؤثر، يقوى بسرعة ويمتد تأثيره من المحلي إلى الإقليمي والدولي، على المستويين السياسي والشعبي، في السنوات الثلاث الأخيرة، وينهض من أزمته الاقتصادية العاصفة بعد الانهيار الكبير لأسعار النفط، إلى أن أصبح يقود الاقتصاد الإقليمي العربي، وتصبح الرؤية السعودية ومفردات الإصلاح فيها رافعة لمطالبات الإصلاح والعدالة الاجتماعية في كثير من الدول، وحتى على المستوى الشعبي أصبحنا نرى في الأزمات الداخلية لبعض الدول المجاورة مقاطع ونداءات صريحة ومباشرة لخادم الحرمين وولي العهد، بشكل عفوي وبعيد عن بروتوكولات السياسة ومرجعيات السيادة.
ولعل من المشتهر في أروقة السياسة الدولية الحديث المتكرر عن دور المملكة الاقتصادي المتنامي ونموذج الإصلاح فيه، لكن المثير للمخاوف لديهم تعاظم تأثيرها السياسي، ومنذ العام الماضي والحديث يتكرر في معاهد الدراسات ومراكز التفكير الغربية المتصلة بدوائر صنع القرار، بأن السعودية هي وحدها التي تمتلك المفتاح الرئيسي أو «الماستر كي» لملفات الشرق الأوسط، وهذا بالطبع يزعج كثيرا من الدول التي تتطلع إلى أخذ دور أو مكانة، أو تزعجها القدرة التأثيرية للسعودية. وعلى المستوى الدولي، وفي ظل وصول الصين إلى الدولة العظمى الثانية في العالم اقتصاديا، والامتداد الخطر على أميركا في مبادرة الحزام والطريق، ووصول العلاقة بينهما إلى شيء من تناقض المصالح والتدمير المتبادل، والخشية من نشوء مواجهة بينهما، إضافة إلى التكتلات التقليدية التي بدأت تضعف مثل: الاتحاد الأوروبي، ودول الآسيان، والدول الطورانية التي تقودها تركيا، إضافة إلى أن النظام العالمي القائم على قواعد مشتركة ومؤسسات متعددة الأطراف في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، بدأ في التآكل، وأصبح مجال نقد عنيف، وخير ما يعبّر عن ذلك خطاب ترمب في الجمعية العامة للأمم المتحدة هذا العام 2018، حيث هاجم المؤسسات والاتفاقيات والمنظمات التي تنتمي إلى النظام العالمي، مثل: اتفاقية المناخ في باريس، والاتفاق النووي الإيراني، واتفاقية التجارة الحرة لأميركا الشمالية، ومنظمة حلف شمال الأطلسي، ومنظمة التجارة العالمية، ومجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، ليوصل رسالة أن النظام العالمي الجديد أصبح من الماضي، وإقليميا لم يعد للاتحاد الأوروبي تأثيره السابق، فالبريكست في بريطانيا، وخلاف ألمانيا وإيطاليا وإسبانيا حول قضايا اللاجئين وغيرها، وجامعة الدول العربية، ومنظمة التعاون الإسلامي، ومجلس التعاون الخليجي، أصبحت بروتوكولية شكلية، لذلك بدأت تنشأ تحالفات جديدة، مثل: ثلاثي الهند وإندونيسيا وأستراليا، ورواق الطاقة بين باكستان والصين، وبداية خروج إيران، واحتواء كوريا الشمالية.
في ظل هذه التغييرات الجوهرية تبرز دائما السعودية كلاعب أساسي ومؤثر في الساحة الدولية سياسيا، كقوة مؤثرة حكيمة بين لاعبين كبار متنافسين ومتصارعين حتى العظم، وكما قال كليس وجولدثاو وليفنجستون «تعتمد القوة الجغرافية الاقتصادية للسعودية على موقعها الإستراتيجي في سوق النفط، وقدرتها على فرض نفوذ هذا السوق، ولفهم الدور السياسي للسعودية يحتاج المرء إلى فهم دورها الاقتصادي في سوق الطاقة الرئيسي في العالم، لأن المنظور الجغرافي السياسي للنفط يقدر أن اللاعبين يقومون باستمرار بالموازنة بين مصالحهم الاقتصادية والسياسية، وأن الاعتبارات الاقتصادية يمكن أن تقود إلى السياسة».
إن أهم تصريحين في السياسة الدولية عام 2018، ولم يلتفت إليهما المحللون كثيرا، هما: تصريحا ترمب ومحمد بن سلمان، الأول في الأمم المتحدة عندما بيّن في خطابه أن النظام العالمي بعد 1945 انتهى إكلينيكيا وأصبح من الماضي، والثاني كلام الأمير محمد بن سلمان في منتدى مبادرة مستقبل الاستثمار بالرياض في 24 أكتوبر 2018، حينما قال إن الشرق الأوسط هو أوروبا الجديدة، وإن أوروبا كانت تتوسط العالم في القرن العشرين، مع التحول التاريخي باتجاه آسيا في عصر العولمة أصبح الشرق الأوسط هو أوروبا الجديدة، وفي القلب منه المملكة.
لذلك، من الغباء السياسي أن نظن أن الدول الإقليمية والأوروبية تتجاهل هذا اللاعب القوي القادم بقوة، وهم يعلمون المعطيات الحقيقية لذلك، وما ستؤول إليه الأمور على المستويين المنظور والبعيد.
الهدف الثاني، هو الطموح الإقليمي للدول الثلاث الرئيسية في مشروع أوباما «إيران وتركيا وإسرائيل»، أما إيران فمشروع تهيئة العالم الإسلامي للمهدي المنتظر بدأ في مرحلة التقويض، بإلغاء الاتفاق النووي ثم العقوبات الأميركية، والإجماع على وقف التوسع والتدخل في دول المنطقة، وإسرائيل تعلم أن السعودية هي الدولة العربية الوحيدة التي لم تقم علاقات ولم تُجرِ مباحثات مباشرة أو غير مباشرة معها، وتعلم أن السعودية إن غضبت تحركت لغضبها سيوف شعوب العالم الإسلامي لا تسألها فيم غضبت.
أما تركيا، فتلعب لعبة أخطر من الدولتين السابقتين، فهي ليست دولة صهيونية محتلة كإسرائيل، ولا دولة شيعية يحكمها الولي الفقيه، وإنما دولة سُنّية لديها امتدادات عرقية ولغوية مع دول إسلامية كأذربيجان وأوزبكستان وطاجيكستان وقرغيزستان وتركمانستان، ولها علاقات تاريخية مع كثير من الدول العربية، وحلم أمجاد التوسع العثماني يرفرف عليها، وعملت بهدوء عبر سنوات طويلة بسياسة القوة الناعمة، واستطاعت أن تجمع كل فرقاء الصراعات الإقليمية والعربية، تحديدا على أرضها، بدعوى أنها تملك مفاتيح الحل العربي والإسلامي.
والخطر الأكبر في الدور التركي ليس في أنها تسعى إلى زعامة العالم الإسلامي، فهذه فكرة فيها سذاجة سياسية، إذ إن الهيمنة في لعبة سياسات الدول لا تتم بهذه الطريقة، وفكرة أن الرئيس التركي يسعى إلى إقامة خلافة كلامٌ أشبه ما يكون بأفكار هوليودية من فئة ألف ليلة وليلة، ومصباح علاء الدين.
الخطير في الهجمة التركية على السعودية يتمثل في أربعة أمور، هي:
-1 تبادل الأدوار بين الهجوم المراوغ التركي على السعودية، والذي يخرج في شكل تصريحات للصف الأول والثاني من القيادة، وتسريبات لوكالة الأناضول الرسمية وTRT الرسمية، والصحف الموالية لحزب العدالة والتنمية، واستخدام الحرب بالنيابة من خلال قناة الجزيرة وعاصمتها الدوحة.
-2 الحصول على مكاسب تكتيكية سريعة، كصفقة إطلاق القس الأميركي، والتي كانت خطا أحمر، واستثناء أميركا لها من العقوبات الإيرانية، والحصول على مكاسب تفاوضية مع أميركا والسعودية، وصرف النظر عن تدهور الاقتصاد التركي، وضخامة الاعتقالات التي تمت فيها.
-3 الظهور القوي لتركيا من خلال المنظمات الإسلامية والبعثات الدبلوماسية، إذ تصرف عليها ببذخ، وتستقطب من خلالها العناصر المجتمعية الفاعلة دينيا وسياسيا، خاصة في الدول الإسلامية الفقيرة في إفريقيا ثم آسيا، ويكفي أن نعلم أن الممثل الدائم لتركيا في منظمة التعاون الإسلامي بجدة لديه جهاز أكبر من جهاز المنظمة نفسه، فضلا عن السفارة وقنصليتها.
-4 الهدف الإستراتيجي بالتركيز غير المباشر على نزع الصفة الإسلامية عن السعودية، وأنها خادمة للحرمين الشريفين، من خلال التضخيم الذكي غير المباشر لحادثة الرافعة، وتدافع الحجاج، وتدويل قضية خاشقجي، وتسريبات عن إشكالات نسب الحجاج، وصفقة القرن التي قامت أذرعها بإقحام السعودية فيها وهي براء، في مسعى إلى إثارة العالم الإسلامي ضد السعودية، ومحاولة الضغط الخفي على موضوع تدويل الحج والحرمين الشريفين، وهي تعلم أن هذا هو الطريق الوحيد للهيمنة والتأثير على العالم الإسلامي، وبدونها ستكون أي محاولة أخرى مصيرها الفشل.