التناغم الاجتماعي ليس درساً أخلاقياً يمكن نشره بأساليب توعوية، والسياسات الاقتصادية ليست قراراً ورقياً يمكن اتخاذه بمجرد اقتناع المسؤول. يوجد عوائق كبرى تواجه هذين الملفين، وتجعلهما صعبي التطبيق بقدر ما هما حاسمان وضروريان. لا يمكننا أن نفترض أن المواطن سيرضى ويسلّم بأن يقاسمه ثمانية ملايين عامل وافد نفس حقوقه المكفولة له بالمواطنة بين يوم وليلة، كما أن تطبيق أي سياسة اقتصادية يتطلب وقتاً طويلاً ليؤتي ثماره ويثبت جدواه على افتراض أنها كانت السياسة الأنسب منذ البداية. ثمة دول سابقة في مجال استيعاب المقيمين والوافدين كمهاجرين ما زالت حتى هذه اللحظة تعاني من بعض الأصوات المناوئة للتناغم الاجتماعي، وتهاجم السياسات الاقتصادية التي اعتمدت على القوى المهاجرة من الأساس. فلننظر إلى اليمين الأوروبي وهو لا يطالب بوقف تدفق المهاجرين فحسب بل بنزع الجنسية عمن حصل عليها بالفعل. ولننظر إلى المحافظين الجدد في شمال أميركا وهم يفسرون التغيرات الحضارية الطبيعية في أي مجتمع على أنه اندثار للقيم الوطنية، واندحار للجنس الأبيض، فيؤلبون الرأي العام على الأقليات المتزايدة من اللاتينيين وغيرهم. هذا على الرغم من أن تجربتهم الحضارية تملك أدلة اقتصادية دامغة على ما أسبغته عليهم سياسات احتواء المهاجرين ودمجهم في المجتمع بحقوق متساوية من رغد تنمويّ وتنافسية عالية ورفاهية اجتماعية، ثم هم يكفرون بتلك النعمة وينقلبون عليها، مما حدا بالاقتصادي البريطاني فيليب لقرين إلى تذكيرهم بذلك في كتابه: (بلادكم تحتاج إلى مهاجرين)، والذي دلل فيه بمنطق اقتصادي معاصر كيف أن حاجة هذه الدول لاستقطاب المزيد من المهاجرين هي أشدّ إلحاحاً منها إبّان الثورة الصناعية.

من الواضح أن ما يحدث في تلك الدول لا علاقة له بالأدلة الاقتصادية الدامغة ولا بالضيق الاجتماعي المباشر. فالاقتصاد لا يزال منتجاً، والمجتمعات لا تزال متعايشة. المشكلة ثقافية إذن، وهذه الدول بدأت تعاني من (تناقص) في مرونتها الثقافية بسبب التقلبات السياسية التي واجهها العالم في العقد الأخير مثلما نعاني نحن من (نقص) أوليّ في هذه المرونة. وقياساً على ما يجري من عداء للوافدين في تلك الدول لأسباب ثقافية، فلعلنا لا نجد صعوبة في إحالة ردة الفعل المحلية لدوافعها الثقافية في حال تفعيل ملف التناغم الاجتماعي بإلغاء نظام الكفالة كما تفعل دول الخليج تباعاً، لينافس الوافد المواطن في وظائف القطاع العام مثلما فعل في وظائف القطاع الخاص، ثم - وتلك التي تستكّ منها المسامع - يتمكن من الحصول على الجنسية السعودية. كذلك فإن تطبيق سياسة اقتصادية جديدة تمنح قدرات تفاوضية أعلى للعمالة الوافدة هو شأن لا يحبذه رجال الأعمال، وسيجدون ألف طريقة لإعاقة هذه السياسات قبل تطبيقها لما ستؤدي إليه من تكاليف أعلى لتجارتهم وأرباح أقل. وفي كل دول العالم، لا توجد سياسة اقتصادية مرضية للجميع. دائماً هناك أطراف "خاصة" متضررة من السياسة الاقتصادية التي تهدف للمنفعة "العامة".

الصعوبات التي يواجهها ملفا التناغم الاجتماعي والسياسات الاقتصادية يفترض بملف المرونة الثقافية أن يخفف منها. المرونة الثقافية لا يمكن أن تتحقق بين يوم وليلة. من الصعب إقناع مواطن بالمنفعة غير المباشرة من تحسين أوضاع العمالة الوافدة بينما هو يعيش يوماً بليلة ذلك الضرر المباشر منهم، ويطالب بتقييدهم، وتقليص حضورهم، والتضييق على فرصهم الوظيفية والتجارية كي لا يقاسموا المواطن خيرات وطنه. ملف المرونة الثقافية يفترض به أن يسعى لإحداث تغير جذري في الطريقة التي ينظر من خلالها المواطن للوافد، وينقل هذه النظرة من أفق العلاقة التجارية المباشرة إلى أفق العلاقة الاقتصادية المعقدة. هذه النقلة بين الأفقين تتطلب استيعاباً لتعقيدات الاقتصاد العالميّ المعاصرة بعد أن اقتصر فهمنا السابق له على البعد الريعي الذي يوفره لنا النفط الذي نبيعه ويدرّ علينا ثروة تنفق منها الدولة والسلام. إذا لم يتحوّل كل مجتمع بشريّ إلى نظام قيمي (value system) بوسعه أن يقدّم للعالم منتجاً ذا قيمة تنافسية وإلا فلا مكان لهذا المجتمع في الاقتصاد العولميّ، وأول ما يعتمد عليه المجتمع في الإنتاج هو أن يكون مرناً بما يكفي لمواكبة التغيرات والمنافسة والتأهب بشكل استراتيجي لسوقٍ عالميّ يزداد ذكاءً يوماً بعد يوم. هذا السوق لا مكان فيه للمجتمعات التي تظن أن مصادر الدخل مضمونة وتوزيعه محصور على فئة دون غيرها.

ولكن المعادلة ليست اقتصادية بحتة. فالعوامل الثقافية تؤثر بشكل كبير في رؤية المواطن لحقوقه وحقوق غيره. فلننظر مثلاً إلى نمطيّات الأجور التي قسمت للغربيّ ما لم تقسمه للشرقيّ من حظوظ وغنائم في بلادنا لنرى كيف أن الثقافة قد ألقت ظلالها بشكل مباشر على معادلة اقتصادية بحتة كتلك التي يتحدد من خلالها أجر العامل. تطوير هذه الثقافة حتى تصبح الإنتاجية هي معامل القسمة يتطلب مرونة ثقافية في قبول فكرة أن يتولّى مهندس هنديّ إدارة حكومية، ويتدرّج موظف مصريّ في سلك القضاء، ويتولّى سعوديون أعمالاً طالما أنفوا القيام بها. إنّ ما يتقاضاه النادل في مطعمٍ في كاليفورنيا أكثر مما يتقاضاه مدير مدرسة ابتدائية في الرياض، وذلك لم يكن ليتحقق لهم لولا أن السياسة الاقتصادية انصبّت منذ البدء على إزالة الفوارق بين جميع الوحدات الإنتاجية، واعتماد مدى منفعتهم المطلقة معياراً لتقويم ما يستحقونه من أجر. فأدى ذلك إلى إنعاش قطاعات كاملة في الاقتصاد إلى الحد الذي مكّنها من أن تدفع للنادل هذا الأجر، وسيمكنها من استيعاب جميع القوى العاملة المصطفة في طوابير البطالة في انتظار أن يخلي الوافد لها مكانه!