ظاهرة الصوفية قديمة قدم الإنسان نفسه، فمن الأقدمين من تفرغ كلية لما يؤمن به من طقوس، كما هي الحال في عصرنا وفي كل زمان ومكان.

وهذه الظاهرة في حقيقتها سلوك غريب في الإنسان، كينونتها نفسه وأسبابها تربيته وظروفه الشخصية. إن لهذا الصنف من الناس أنواعا عدة، فمنه من ينحو هذا المنحى نتيجة خواء نفسي يستبد به فينزع به إليها تلقاء ظنٍ منه أنها مالئة فراغه وخواءه، ومنه من يركن إليها حين يعجزه صراع الحياة ابتغاء الخلاص منه.

وعلى أي حال تعددت هذه الأصناف، فإن هذا النوع من التفكير لا يلجأ إليه إلا الكسالى والعجزة عن مواجهة الحياة بمشكلاتها وصورها المتباينة.

ولا أعني ذلك الصوفي المتلذذ بالمناجاة الروحية، ينقّي بها نفسه من شوائب الحياة المادية وأوضارها في الوقت ذاته الذي لا يترك دوره كإنسان يشارك قدر جهده وطاقته في بناء الحضارة الإنسانية، فلعله الجامع بين الحسنيين، وإنما عنيتُ الصوفية المحنطة المتخلفة كليةً عن دور العمل الحضاري المادي، لتظل أداة استهلاك تأكل من غير أن تنتج، وتلبس من غير أن تنسج، وتشرب من غير أن تحضر وتخرج.

ولك أن تسميها «كتائب البطالة»، أو «أكوام الرماد»، وكيف لا تسمى كذلك والإنسان بطبيعة تكوينه مفترض أنه خلية عاملة في إطار من التحرك والانطلاق، ويحافظ على وجوده وسلامة نوعه كمّا وكيفا.

أليس هذا الافتراض الملزم يجعل منها في هذا المنزع خلايا ميتة يتساوى وجودها وعدمها، إن لم يكن هذا العدم أولى وأحق؟

وقد يدّعى معاكس أن هؤلاء هم الصفوة العازفة عن أوضار المادة، ضحت بالترف لتبلغ غاية الروح، همّها الآخرة لا تثنيها عنها مباهج الحياة.

أليس من الغريب استهجانها؟ وهنا لا أجد استدلالا على رد هذا الادّعاء أعظم من استذكار قصة النفر الذين كانوا على ما يبدو حديثي عهد بالعقيدة، جاؤوا إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم- يحملون في حناياهم صوفية مجهدة، سألوا عن عبادته فلما عرفوها استقلوها، فتحادثوا فيما بينهم، فأحدهم يقول:

أصوم ولا أفطر، وآخر منهم يقول: أصلى ولا أنام، وثالثهم يقول: سأعتزل النساء، فيخرج إليهم الرسول الكريم ليقول: أنتم الذين قلتم كذا وكذا.

أنا أصوم وأصلي وأنام وأجامع النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني.

أليس في هذا الرد الناقد والتعليم الجامع إيضاح أن الإنسان له دوران رئيسيان لا يمنعه أحدهما عن أداء الآخر؟

فإذن، كان دور الروح قطبا مهما في حياته المكلفة، ولا يجوز له التخلي عنه وإلا تحول إلى عابد مادّي، تفرض عليه هذه العبادة التخلص من المثل الإنسانية، فإن في الدور المادي قوامه وحياته ودونه يبقى صوفيا مختلفا.

إن فقدان التلازم بين هذين الدورين سيؤدي إلى نتيجتين يتصورهما العقل المدرك، فإما التوحش المادي الرافض للقيم والمثل الإنسانية، وإما تعطيل طاقة في استغلالها نفع للإنسان، وفي كلتا الحالتين هدر لدوره في الأرض واستخلافه فيها.

«أحاديث وقضايا إنسانية 1403-1983»


عبدالرحمن النفيسة