ما ابتُلي قوم بأشد من كونهم مقلدين لغيرهم وتابعين لضدهم دون فهم لما هم يفعلون، وإدراك لما هم يتصرفون، وما ابتُليت أمة من الأمم ببلاء أشد من مصادرة العقل فيها، بينما الرب العظيم يخاطب من خلقه أولئك الذين يتفكرون ويعقلون «إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون» «إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون».. إن العقل الإنساني ينبوع ثر يتدفق بلا قيود، ويعطي بلا حدود، وحين يعطل الإنسان هذا العقل فسوف ينحبس جريانه ويغيض ماؤه وينضب معينه.

 قلت: ومصادرة العقل تتم إما عن طريق الغير حين يفرض سلطانه على التابعين، ليكون هذا الغير هو المدبر لكل شيء، ويرفض لغيره أن يكون له شيء، وفي هذا الوحل يموت التابعون حين يموت، وتنتهي بالتالي طاقات كادت تبدع، وإما أن تتم مصادرة العقل عن طريق الإنسان نفسه حين يكون تابعا مقلدا يخشى أن يكون متبوعا فيطاله ندم، ويخاف أن يكون مبدعا فتزل به قدم.. فيبقى طيلة وجوده ظلا لوجود يلازمه يتحرك حيثما يتحرك، ويسكن حيثما يسكن، قد يكون هو الفاعل ذلك بلا خيار.

أمرتهم أمري بمنعرج اللوى

فلم يستبنوا النصح إلا ضحى الغد

فلما عصوني كنت فيهم

وقد أرى غوايتهم وأنني غير مهتد

وهل أنا إلا من غزية إن غوت

 غويت وإن ترشد غزية أرشد

- «دريد بن الصمة» كان له رأي مستقل عن قومه. رأي يجزم به ويعرف نتائجه بحكم ذكاء الفطرة، ولكن في حمأة التبعية المطلقة للقبيلة وشيخها وطقوس المجتمع وخوف القبيلة صادر دريد عقله ونزل على رأي قومه حتى مع علمه بخطئهم.

 قلت: فإن كانت هذه فلسفة تعني التبعية المطلقة وتخلي الإنسان عن رأيه ليكون هو التابع دائما، الذيل أبدا. يترجل حينما يكون المتبوع راكبا، ويقعد حينما يكون المتبوع ماشيا. يخفق الصوت ويغض الطرف، فذاك أمر ينبغي نبذه ظهريا.

وما ظنناه عاملا في إصلاح الحياة وعمارة الأرض، ولكن هذا لا يعني التخلي عن الإجماع والجماعة.. الجماعة قوة والإجماع هو الصواب كما ألف ذلك الناس، ولكن هل كل إجماع صواب؟ وهل صواب الإجماع مطلقا؟ لما كانت شؤون الحياة تتطلب الائتلاف وتستدعي نبذ الاختلاف كان الإجماع هو الصواب.. الصواب من حيث كسر عصا الاختلاف فقط، ولكن ليس كل رأي مجمع عليه صوابا. وليس كل رأي مخالف خاطئا.. الإجماع هو الصواب، لأنه ليس ثمة بديل له يؤدي إلى توحيد كلمة، ونبذ فرقة، ولا مراء في أن الأمم التي يكون فيها إجماع على رأي وتقدم الرأي المجمع عليه وتحترم الرأي المختلف عليه تعتبر أمة عظيمة الشأن تحترم العقل، وتكرم الإنسان. ولكن المشكلة تأتي حين يوضع العقل أمام خيارين: فإما المصادرة الحسية حين يراد له أن يكون ساكتا، أو المصادرة المعنوية حين يراد له أن يكون ذيلا.

 قلت: ومصادرة العقل لا تتم فقط بهذه الصور، بل تتجسد في صور أخرى.. فالمفكرون حين يوضعون في مجرة الحياة فكأنهم مصادرون، أو حين يحاط المجتهدون الواعون بتشكيك وتسفيه وإرهاب حسي فكأنهم مصادرون.

وليس المهم هنا الحديث عن ذلك كواقع، بل فيما ينتجه هذا الواقع من آثار خطيرة على الكيان العام، فالانحراف الفكري والعقدي.. والصدمات العقلية.. تخريب الكيان.. الحقد وحب الانتقام. مجموعة آثار إن لم تحدث بشكل عاجل فستحدث بشكل آجل. لقد روي أن اثنين من الرواد من قومنا أفنيا عمريهما في التأليف والبحث، وكتبا الآلاف من الصفحات بعد جهد مضنٍ، ومعاناة وآلام ثم بعد هذا قرر أحدهما أن يدفن كتبه في التراب لماذا؟ لقد شح بها على التلف، ولكنه شح بها أيضا على مجتمع كان يلفظه ويصادر عقله. ولكن العالم الآخر كان على نقيضه حين خرج إلى إحدى الساحات بكتبه الكثيرة ثم حولها إلى ذرات من عدم لماذا؟ لأن المجتمع في نظره لا يستحق أن يكتب له. ترى أليس ذلك هو الحقد والانتقام في أبشع صورتيهما، تقمّصا نَفْسي عالِمين كادا يقدمان لحضارتنا ثروة وعطاء؟

إن الإنسان يخطئ جدا إذا صادر عقله على أساس أن الرأي المجمع عليه دائما هو الصواب. الالتزام برأي الجماعة هو اللازم من حيث كونه أدعى للائتلاف، ولكن ذلك لا يعني التخلي عن العقل ودوره في إبداع فكرة أو إظهار حجة.

إن حرية العقل وازدهاره يعودان إلى العقل نفسه، إنه باختصار القادر على أن يحيا وعلى أن يموت، شأنه مرة أخرى شأن الطائر الشجاع حين يفضل الموت على جمال الأقفاص، أو شأن ضده من بغاث الطير حين يرغب في الحياة في السراديب متى ما وجد القليل من العيش، وإن كان ذليلا.. وابحثوا عن التربية حتى في عالم الطيور فستجدون أنها تجعل من هذا شجاعا يطلب الموت من أجل أن يكون عزيزا في الحياة، ومن ذاك جبانا يريد الحياة حتى وإن كان ذليلا.

(أحاديث وقضايا إنسانية 1403-1983)


عبدالرحمن حسن النفيسة