لقد خلق الإنترنت فرصة كبيرة لمشاركة العامة في جميع القضايا، الأمر الذي تسبب في وجود رأي عام في كل قضية سياسية أو اجتماعية أو غيرها.
وليس الإنترنت المصدر الأوحد لقوة الرأي العام، ففي ظل توهج الرأسمالية الحالي يصبح الرأي العام -بصفته رأي مجموعة الأشخاص المستهلكين- على رأس الأولويات، ونجد هذا واضحا في ميل بعض الشركات إلى استغلال القيم السائدة في مجتمعاتهم، والتي يفترضون ميل الرأي لها في التسويق للمنتجات التي يفترض عدم صلتها بهذه القيم، كما نجد في المقابل بعض الشركات التي تتمرد على هذه القيم تُشكل ضدها حركات احتجاجية، ويضرب الناس عن منتجاتها.
والنتيجة اليوم، أن التنظير في قضايا الشأن العام لم يعد حكرا على النخب كما هو الحال سابقا، بل زاحمتهم العامة فيه بقوة الرأي العام في جميع أنحاء العالم، فأصبحوا قوة ضاغطة على النخب السياسية والاجتماعية وغيرها، حتى وصل الأمر للجامعات والمؤسسات البحثية، فأصبحت قوة الرأي العام تقيد في كثير من الأحيان الأكاديميين والباحثين، وقد ثبتت حوادث تضرر متنوعة لأكاديميين في أرقى جامعات العالم، بسبب أطروحات خالفت الأيديولوجيا السائدة في مجتمعاتهم، فالرأي العام دائما ما يكون مناصرا لأيديولوجيا معينة تختلف من مجتمع إلى آخر.
بلا شك، تختلف قوة الرأي العام من دولة إلى أخرى بحسب عوامل متعددة، أبرزها طبيعة الأيديولوجيات السائدة في المجتمع، ومدى تحريضها على تشكيل رأي عام.
ويعد على رأس مشكلات الرأي العام أنه سلطة غير مسؤولة، يظهر ذلك تحديدا في قدرته على الضغط على النخب في المجالين الاقتصادي والسياسي، فهو على سبيل المثال يضغط لتمرير فكرة تخدم توجهاته الأيديولوجية، لكنه ليس مستعدا لتكبد الخسائر المترتبة عليها، سواء كانت أمنية أو اقتصادية، وترف اللامسؤولية هذا عزز قوته، إذ إنه لن يضعف خوفا من العواقب التي يكون الخوف منها أولوية لدى النخب ذات السلطة المباشرة، والتي تعلم أن أصابع الاتهام ستتجه نحوها في حال وقوع أي عواقب سيئة.
وأنا هنا لا أشيطن الرأي العام، ولا حرية التعبير التي أنتجته، فله محاسنه التي لا يمكن إنكارها، فهو بصفته قوة ضاغطة على النخب يضبط النخب بشكل نسبي، ويمنعهم من استغلال نخبويتهم بشكل غير أخلاقي، فيما يضر بالمجتمع والعامة، وأنا أيضا لا أشكك في أن وجود قوة للرأي العام خير من عدمها، فقد جرى اختبار غيابها في التجارب التاريخية، وبلا شك لم تكن تجارب موفقة، لكنني في الوقت ذاته أَجِد أن الأضرار التي يمكننا اعتبارها أعراضا جانبية لقوة الرأي العام، أصبحت أكثر جدية من أن يمكن تجاهلها، ثم إنني لا أَجِد اهتماما جادا من المثقفين لإيجاد توجهات يمكنها أن تسهم في تخفيف فداحة هذه الأعراض الجانبية، فالتوجهات الموجودة على الساحة اليوم إما ممجدة للرأي العام بإطلاق، أو مترفعة عنه وتجد العامة التي تكونه مجرد «فيالق حمقى» يستحسن أن يتم إسكاتهم لتعود المنابر نخبوية صرفة، ويعود العامة قطيعا، ونجد أصواتا تقدم حلولا تعتقدها مجدية كالسعي في رفع الوعي العام كي لا ينتج عنه ضغط في اتجاه غير صحيح، أو كنشر ثقافة ألا يتحدث الفرد فيما لا يفقه، ولكنها أصوات خافتة ولم يتم حتى الآن وضع هذه المشكلة على طاولة الحوار العربي بشكل أكثر جدية، ولم نجب عن كيف يمكننا أن نحصل على خير الرأي العام ونكتفي شره، وأعتقد أن الوقت قد حان لذلك.