عبر ما يزيد على أربعة عقود مضت من عمر المقالة الصحفية في بلادنا، برزت قضايا فكرية ومجتمعية، وتكررت وتكاثرت وتراكمت حتى إنه لا يكاد يغادرها كاتب، وبقيت المقالة التي تنشر قبل عشر سنوات، صالحة للنشر بعد عشر سنوات؛ لأن التاريخ المجتمعي والفكري كان مسدوداً، أو أنه واقف لا يخطو إلى الأمام خطوة حقيقية واحدة.
تلك الحال الواقفة كانت شبيهةً بالمعين الذي يستقي منه الكُتّاب موضوعات مقالاتهم، وفي سطورها كانوا يحاولون شد العقول إلى التفكير شدا، ويعملون
-بأساليب ساخرة وجادة وناقمة- على الإقناع بجدوى التغيير دون جدوى، وهم في الحالات الكتابية كلها يأملون ويتمنون ويحلمون وينقمون أحيانا، ولكن دون جدوى أيضا. في أثناء حالة الانسداد التاريخي التي مرت بها بلادنا، كانت الموضوعات متوافرة؛ فمن لم يجد موضوعا مجتمعيا، كتب عن أهمية السماح بقيادة المرأة للسيارة، أو دعا إلى تمكين المرأة من: العمل، والحياة، أو دبج مقالة متألمة عن اختناق الفضاء العام في شوارعنا وحدائقنا وحاراتنا، مصورا عجزه عن إيجاد مكان يتنزه فيه مع أسرته، دون أن تعترضه فرق رسمية مستقوية بالسلطة، أو فرق احتسابية غير رسمية تستقوي بالمزاج العام الرافض لأشكالٍ كثيرة من الفرح والحرية والحياة الطبيعية، موضحا أن النوعين كليهما يتفقان في التهديد والتربص والتلصص والعنف. أما من لم يجد موضوعا فكريّا، فسيكتب عن آثار التطرف وعلاقته بالإرهاب، أو عن مساوئ التسليم والتبعية الفكرية، أو عن التصنيف الفكري من حيث: الجذور، وأنواع المصنفين، وأهدافهم، وإذا تعمق، كتب مقالا حفريّا عن طرائق أعداء بلادنا الأقربين والأباعد، في استغلال تطرفنا من أجل شرذمتنا، وتكريس أسباب الفرقة من: طائفية، ومذهبية، ومناطقية، وعنصرية.
أما من لم يجد موضوعا سياسيا ذا صبغة محلية راهنة ومعاشة، فسيكتب عن الأحزاب السياسية الخفية التي تتوغل فينا، ولها أدبيات تحريضية عدائية مصادِرة لكل مختلف معها، ولكل واقف في وجه توغلها وانتشارها، وقد يكون الكاتب مباشرا ومحددا، فيكتب عن جماعة الإخوان وولاءاتها الخارجية، وكفرها بالوطن، وعلاقتها الفكرية والتنظيمية بالقاعدة وجبهة النصرة، وغيرها من الجماعات الإرهابية المسلحة التي تتحول إلى خناجر في ظهر الوطن.
وهكذا؛ كانت الموضوعات المقالية ملقاة على قارعة الجمود التاريخي، وكانت المقالات على اختلافها تتوالد من رحمٍ واحدةٍ، هي الحال الجامدة التي كنا نظن جمودها أبديّا، حتى إن أسئلة كل كاتب من هذا النوع مع نفسه، كانت: ما الفائدة مما أكتبه؟ ولماذا أكتب؟ ولمن أكتب؟ وإلامَ أكتب؟ ولماذا أتعرض إلى الأذى بسبب ما أكتبه؟ وهل يأتي اليوم الذي أجد فيه صدى لما أكتبه؟
والآن، وبعد أن تحققت آمال كبيرة وكثيرة، وبعد أن انكشفت أغطية كثيرة، كان الكُتاب والمثقفون عاجزين عن كشفها أمام المجتمع، حتى تآزر معهم السياسي، فتفتقت الأذهان، واستطاعت التفريق بين: الديني الخالص لله، والديني الذي ليس له من الدين سوى استخدامه في تحقيق المآرب السياسية؛ وبعد ذلك الانكشاف، تبرز الأسئلة: كيف نكتب؟ وماذا نكتب؟ وهل يكون نقد التفصيلات الإجرائية والتنفيذية المتعلقة بطرائق التحول الوطني والمجتمعي مفيدا؟
أزعم أن الكتابة عند محترفيها حاجة حياتية فطرية، تشبه الحاجة إلى الأكل والشرب والتنفس؛ ولذا تستمر الكتابة، فنكتب لأنها الكتابة التي كانت عند أجدادنا «صناعةً مُعظّمة»، كما هي في عقل القلقشندي ومن روى عنهم أن: «من لم يكتب فيمينه يسرى»، وأن «الكُتاب ملوك وسائر الناس سُوقة»، وباتت بالنسبة إلينا «الحياةَ كل الحياة»، لأنها ممارستنا السرمدية التي تساير لحظاتنا كلها، ولا تنقطع إلا بنهاية حياة الفرد، بل إنها الحركة السلمية المضادة للفناء، والباقية رُغم الموت. إنها الكتابة؛ تلك التقدمية التي تنقل الخطاب من فطريته الشفهية الأولى إلى بعده الرؤيوي، وصفته الخلودية. إنها كما يقول أبو الوجوديين، سارتر: «حين أكتب كلمة أكون قد تداخلت مع العالم الحالي، وخرجت منه في الوقت نفسه، متجاوزا إياه نحو المستقبل».
إنها الكشف، والتغيير، والحرية، وتجسيد ما يحوم في فضاءات العقل، وما يتراقص في فناءات الروح. إنها رؤية منفتحة على الإنسان، وعلى الكون، وعلى المستقبل. إنها الابتكار المستمر، لإنها -أبداـ اختراعٌ لقوالب ومعان وصور وتراكيب جديدة. إنها التخطي المتصل نحو كتابات أخرى. إنها التي لا تعرف حدا نهائيا، وهي المتجاوزة لكل الحدود، وهي الخلق المتواصل. إنها -الآن- «النص» الذي لا يكون إلا حين يكون مكتوبا، بعد أن باتت الشفاهية تاريخا وحسب، وليس أدل على ذلك من أن التشكيل البصري بكل تعرجاته صار جزءا من النص، وعنصرا من عناصر اللغة، أي أنه أصبح كلاما مرئيّا لا مسموعا. وبعد؛ فلماذا نكتب؟ سؤالٌ يبقى مطروحا كبقاء تصاعدية أهمية الكتابة ووظائفها. سؤالٌ يبقى ما بقيت الكتابة للبقاء، وما بقي الكلام للفناء.
لماذا نكتب؟ أنكتب للكادحين؟ أم نكتب للعشاق؟ أم نكتب للمحرومين؟ أم نكتب للمُترفين؟ أم نكتب بوصفنا كونيين؟ أم نكتب لننفخَ الروحَ في الكلام؟ أم نكتب للقادمين وتابعيهم وتابعي تابعيهم إلى يوم يؤتى كل امرئ كتابه بإحدى جارحتيه؟ أم نكتب لنستلذ؟ أم نكتب لنكتب بوصف الكتابة مزاجا ورغبة؟
لماذا أكتب؟ سؤالٌ عريضٌ مستطيل متعرج ولانهائي، وكأنه القول في «فلسفة الكتابة نفسها»، ولكل كاتب أن يجيب حسب مزاجه وأهدافه ومبادئه وبيئته، ورغم جدلية القول في أهمية الكتابة ودوافعها، فإنها الباقية؛ لأنها للخلود، وغيرها «كلام» للفناء.