كلمات «التأبين» التي تقال أو تكتب في أعقاب وفاة أي مبدع، سواء أكان أديبا أو موسيقيا أو فيلسوفا أو مغنيا أو مفكرا أو رساما، هي في العادة كلمات مضمخة بـ«الحزن» عليه، مبللة بـ«الدموع» من أجله، وبلوعة الفراق الفارد جناحيه، وبـ«الإحساس» بالفراغ المقبض والمقبل.

وبقدر ما يكون القرب والبعد عن شخص الفنان المؤُبَّن، وبقدر ما يكون التأثر به والتقدير له والإحساس بمكانته، تكون الدموع، ويكون حجم الحزن، ودرجة التفجع عليه، لكن هذه الكلمات تبقى، وفي كل الأحوال في سياقها الطبيعي: عواطف إنسانية، وأشجان إنسانية، واستجابة إنسانية، ولذلك فهي عادة ما تصدر من «القلب» وعنه. وفي كثير من الأحيان لا تمر بـ«العقل» أو تتوقف عنده كثيرا على وجه الدقة. ولأنها كذلك فهي ليست «شهادة»، وليست «تقويما»، وليست رأيا، بل هي كلمات باكية، مغموسة في الدموع، أو حزن مكتوب، أو بكاء في كلمات على الفقيد، وربما على النفس التي ستواجه لحظة كهذه في ساعة ما، في يوما ما، وفي زمن ما!

وإذا استثنينا ما قاله «شوقي» -على سبيل المثال- في «نعي» الأديب المصري المهضوم المرحوم «مصطفى لطفي المنفلوطي»، فإننا نجد شيئا مختلفا تماما، فهو لم يبكه، ولم يحزن له، ولم يتفجع عليه، ولم يقل شيئا لا من القلب ولا من العقل، بل خرج من كل ذلك ليتحدث عن «اليوم» الذي اختاره «المنفلوطي» ليكون يوم وفاته -وكأن الأمر بيده- ليكبر «سعد باشا»، وليهتف له، وهو يصور يوم الاعتداء عليه بأنه يوم «الهول»، أو يوم «الفزع الأكبر»، عندما قال:

اخترت يوم الهول يوم وداع

ونعاك في عصف الرياح الناعي

من مات في فزع القيامة

لم يجد قدما تُشيع أو حفاوة ساعي

تناسى «شوقي» أن الأستاذ «المنفلوطي» كان «أديبا كبيرا مؤثرا، أحدث نقلة جوهرية وحقيقية في أسلوب الكتابة وصيغتها في العشرينات من هذا القرن» وتذكر أنه كان سكرتيرا لـ«سعد باشا»، فاختار أن يوظف المناسبة توظيفا سياسيا ذكيا، فلا يتهم بالتخلف عن تأبين أديب «زميل»، ولا بـ«التقصير» في التنديد بـ«حادث الاعتداء» على سعد، ليفوز في النهاية بـ«رضا» سعد، و«سخط» أصدقاء «المنفلوطي»، وإعجاب القراء الذين هزتهم بالتأكيد براعة ومقدرة «شوقي» في توظيف «حدث الوفاة» لخدمة حادث الاعتداء على سعد باشا!

لكن ما قيل عن وفاة «أم كلثوم» في الثالث من فبراير عام 1975، وبعده، كان شيئا مختلفا عن نمطية التأبين، ونمطية الاستجابة لفاجعة الموت والتأثر بها والحزن لها أو عليها. كان كلاما من القلب، ومن العقل، ومن الوجدان، ومن الوطنية، ومن العروبة.

نعم، كان البكاء عليها نهرا يتدفق من المحيط إلى الخليج، ومن البحر الأبيض إلى بحر العرب. وكان البكاء عليها حديثا عنها وعن تاريخها ودورها كفنانة وإنسانة وقيمة جمالية ووطنية.. ألهبت المشاعر بقدر ما أضاءت الوجدان العربي.

وعلّمت الحب في«أسمى» صوره، كما قدمت «الوطنية» في أنبل وأشرف معانيها، ولقد شارك في كل ذلك الذي كتب عنها بـ«القلب» و«العقل» المئات من رؤساء الجمهوريات، ورؤساء الوزارات، والوزراء، وكبار الكتاب والفلاسفة، والأدباء والشعراء، والموسيقيين والمغنيين، حتى لم يبق حامل قلم ووتر ونغم وريشة في طول الوطن العربي وعرضه، إلا وعبّر عن حزنه في فقدها، وتقديره لعطائها، ولعل من أجمل ذلك الذي كتب فورا وبعد وفاتها، كان ما قاله رفيق مشوار عمرها الفني الطويل الشاعر الغنائي الكبير الأستاذ أحمد رامي:

ما جال في خاطري أني سأرثيها

بعد الذي صغت من أشجى أغانيها

قد كنت أسمعها تشدو فتطربني

واليوم أسمعني أبكي وأبكيها

إلى أن قال:

يا بنت مصر ويا رمز الوفاء لها

قدمت أغلى الذي يهدى لواديها

كنت الأنيس لها أيام بهجتها

وكنت أصدق باك في مآسيها

ثم ما كتبه شاعر «أنت عمري»، الذي جعل صوت أم كلثوم منه علما من الأعلام، وشاعرا في مقدمة شعراء الأغنية، أحمد شفيق كامل، فقد قال:

أيقظوها فللحديث بقية

لم تقلها.. وللهوى أغنية

أيقظوها لعل حلما جميلا

شاغلتها طيوفه الذهبية

لكن الأديب الكبير «نجيب محفوظ»، وكعادته فيما يبدو، استطاع أن يلتقط نفسه من لحظة الحزن والتفجع، ليؤبنها بـ«رأي» يخلو من جلبة العواطف وزحمتها. فقد قال: «الفنان نوعان: فنان صاحب عبقرية فنية، وقد يكون في الوقت نفسه رديئا، وفنان صاحب عبقرية فنية وفي الوقت نفسه صاحب عظمة إنسانية.

ومن النوع الثاني «بيتهوفن» و«سارتر»، ولقد كانت أم كلثوم فنانة عبقرية وإنسانة عظيمة»، لقد وضعها بعقله البارد وهدوئه جنبا إلى جنب مع «بيتهوفن» و«سارتر»، وهما من هما في الإبداع «موسيقيا» وفكريا وفلسفيا.

لقد كُتب عنها كثيرا وطويلا، وما يزال يكتب عنها، وسيظل يكتب عنها لأن «الأحجار» التي بنت هرمها كانت كثيرة وعديدة، وكلٌ كان يبكي حجرا من تلك الأحجار. فـ«التواشيح» والقصائد التي حفظتها كانت حجرا، واستقامة خلقها وسلوكها كان حجرا، وإخلاصها وصدقها ووطنيتها وعروبتها، إبداعاتها وتجديدها، وحرصها على السباق مع نفسها، كل ذلك وغيره شَكّل أحجارا في هذا «الهرم» الذي عرفناه وأحببناه وفقدناه: أم كلثوم.

إن القصائد التي حفظتها لعشرات الشعراء العرب من مختلف العصور، لا يستطيع كثير من مطربي اليوم والأمس قراءتها بلغة سليمة، فضلا عن حفظها، بل عن نقلها سهلة سلسلة إلى ألسنة العامة.

لقد كانت لها مقدرة خاصة وفريدة لا يجاريها ولا يدانيها فيها أحد، ليس في حفظ المطولات من القصائد، ولكن في اختيار أبيات بعينها من قصيدة واحدة، ذات وحدة موضوعية، وتحويلها إلى أغنية يعتقد سامعوها عند سماعها أن هذه هي «كل» أبيات القصيدة وليس بعضها، ومتفرقا، ففي القصيدة المعروفة باسم «سلوا قلبي»، على سبيل المثال، اختارت أم كلثوم واحدا وعشرين بيتا متفرقا من واحد وسبعين بيتا هي قوام القصيدة «شوقي» في ذكرى المولد، لتجعل منها القصيدة النبوية المعروفة باسم «سلوا قلبي»، وفي القصيدة التي عرفت باسم «حديث الروح» للشاعر الباكستاني العظيم وفيلسوفها الإسلامي الكبير «محمد إقبال»، والتي ترجمها إلى العربية الأستاذ «محمد حسن الأعظمي»، ونظمها شعرا الأديب الأزهري الأستاذ «الصاوي علي شعلان». فعلت أم كلثوم الشيء نفسه. بل ما هو أكبر وأعمق وأبعد. فقد بلغت عبقرية الانتقاء والاختيار عندها الذروة وقتها، فكان أن اختارت أو انتقت من «ملحمة» إقبال، التي تتكون من جزأين: الأول.. وهو «الشكوى» والذي يتكون من مئة وعشرين بيتا، والثاني: وهو جواب «الشكوى» والذي يتكون من مئة وأربعين بيتا، ما مجموعه ثمانية وعشرون بيتا من «الجزأين».. بادئة بـ«جواب الشكوى» ومنتهية إلى «الشكوى»، وعلى عكس ما كتب الشاعر، لتكون هذه القصيدة «حديث الروح»، الفريدة في كلماتها ومعانيها وأشجانها الإيمانية ونغمها الصوفي المضمّخ بجلال الإيمان وعظمته.

إن الباقي من أم كلثوم هو «أعمالها» التي تشكل مدرسة، و«قصة» حياتها التي ترسم منهجا شاقا صعبا، ولكنه الطريق الوحيد لكل فنان ولأي فنان يريد أن يصبح شيئا. فأم كلثوم «الباقية»، هي أعمالها الباقية، هي طريقها الباقي!

 «شيء من الفكر»