ترصد المؤلفة آمال العرجان في كتابها (على طريق الهجر رحلة معلمة على طريق الموت) الصادر عن دار مدارك للنشر، رحلة عذاب المعلمات المعينات في الهجر عبر سرد قصة حقيقية لمعلمة عاشت تفاصيل اللحظات منذ أول يوم، حيث لم تترك المؤلفة شيئا للصدفة، فتقول مقدمة الكتاب آمال عيسى: ربما قرأتم كثيراً عن مشاكل المعلمات والغربة والمدارس، لكن في هذا الكتاب، ألغيت كل التجارب المعتادة؛ لأنها تحدث مع الجميع، مغتربات ومقيمات فحرصت على نقل تجارب الطريق نفسه سواء من تجاربي الخاصة أو مما سمعته، وحبكتها لكم بما فيها من مواقف خطرة، مبكية، وأحياناً مضحكة، ففي الحياة هذا وذاك. على طريق الهجر، رحلة طويلة دامت خمس سنوات، رحلة على طريق عُرف بكثرة حوادثه فسُمي حينها، طريق الموت. على طريق الهجر رحلة، أنجبت خلالها اثنين من أبنائي وتعرفت فيها على صديقات عمري. في ذات الرحلة تطورت قدراتي المعرفية والعملية والأهم تجاربي الشخصية.
خطاب التعيين
جلست في سيارتنا المتواضعة أنتظر خروج زوجي من إدارة التعليم، كان الحر شديداً يومها والرطوبة عالية والتكييف يحاول جاهداً تلطيف الأجواء، السيارات متراصّة في المواقف والداخلون إلى المكتب أكثر بكثير من الخارجين منه، هذا بيده ملف أخضر وآخر بيده «بشت» وثالث يبكي لا أعلم لماذا...!
ورغم ذلك كانت مشاعري شبه غائبة عن هذا كله، كنت أنظر من زجاج السيارة إلى ما حولي بعينين دامعتين وعقلي وقلبي كانا في مكان آخر، في كلية التربية حيث تركت طالبات يختبرن مادتي وأبحاثا بدأتها في الترجمة والتعريب والأهم تركت ورائي حلم سنوات التفوق الطوال «د.آمال» ومعيدة في كلية التربية وإن كانت دون حقوق وظيفية ودون راتب ثابت إلا أنها خطوة لتحقيق الحلم وسبقتها خطوات كثيرة، توقفت كلها أمام الرد القاسي «لا توجد وظيفة رسمية شاغرة حتى للأولى على الدفعة، لقد انتظرتِ سنتين ولا مانع من الثالثة، إن أردتِ واصلي معنا على ذات الوضع الوظيفي، حتى تتوفر الوظائف ويتم تثبيتكم...!»
كان القرار صعباً جداً فالتنازل عن الحلم الأول لتحقيق الأحلام الأخرى ليس بالأمر اليسير...! أن تعيش عمراً ولا همّ لك إلا الدراسة والتفوق فيها.
استيقظت على صوت قرع على زجاج النافذة..! زوجي يلوح لي بخطاب التعيين..!
أخذ مكانه وسألني: « ألم تتوقفي عن البكاء..؟»
«عموماً مبروك رزقك الله خير الوظيفة وكفاك شرها»
«لكن انتبهي هذه المرة تم استلام الخطاب وليس كما حدث مع وظيفة الحرس ويبرين، فتلكما تنازل عن وظيفة فقط، أما هذه فالتراجع يعني الاستقالة...!»
«هل نذهب إلى سلوى الآن للمباشرة..؟ أم نعود إلى الكلية..؟ لديك القرار...»
مسحت دموعي وقلت له:» توكل على الله.. سلوى...!»
مفاجأة السائق..!
في ذاك الصباح، أعني الفجر، ركبت السيارة وأنا منهكة من قلة النوم، ولكن كانت السيارة تصدر صوتاً غريباً.. فقلت يبدو أنني أتخيل.. إن هذا الصوت في رأسي فقط. جلست بجوار زميلاتي وتحدثنا قليلاً. ومع امتداد الطريق كان الصوت يزداد. هنا لم أستطع أن أتجاهله، فسألتهن ألا تسمعن هذا الصوت..؟!
« بلى، لكن هذه سيارة قديمة وطبيعي أن نسمع منها موشحات كهذه.. المشكلة كيف سنتمكن من النوم.؟!» وقطع صوت
هند بصوتٍ أجش نادراً ما يُسمع في الطريق، إنه السائق أبو محمد يخبرنا بأنه أحضر لنا مفاجأة اليوم، وأنه مندهش من عدم ملاحظة أي منا لتغير الجو في السيارة وتحوله من الجحيم إلى الهواء العليل....!
ثم كشف الستار الذي يفصلنا عنه إلى المنتصف...!
لتظهر المفاجأة قبيحة المنظر..! جهاز تكييف مائي أو صحراوي كما يسمونه، قديم مخلوع الواجهة، خرجت أسلاكه كأمعاء خروف، يوم العيد..!
وضعه في مكان الكرسي الأمامي وجعل وجهه نحونا.. سادت لحظات حداد.. أو لنسميها لحظات صمت على النسيم المنشود.. ثم انطلقنا ضاحكات بشكل هيستيري وطلبت منا سعاد أن نصمت فضحكاتنا عورة...!
تولت مريم الحديث وشكرته على حسن تصرفه ومحاولته البائسة لإسعادنا والتبريد علينا «برّد الله عليك بالجنة»
انتهت المسرحية وحان وقت النوم، لكن الإزعاج لا يُحتمل ونحن جلوس، فكيف بالنوم ومعه هذا الصوت المدوي..!
بدأ النعاس يداعبنا واحدة تلو أخرى وبينما نحن في غفوتنا، أطلق المكيف كمية من الماء يبدو أنها زائدة عن حاجته للتبريد ورشها علينا كما تُرش الخضار على عربة الباعة في أيام الصيف الحارة..! قفزنا جميعاً وكلٌ منا تحاول مسح وجهها من ذاك الماء ذو الرائحة العفنة...!
فتحنا النوافذ وطلبنا من السائق إطفاء مكيف الماء الذي بجواره، ربما تتولى رياح السموم تجفيف ملابسنا..!
السراب
بدأنا الرحلة الأولى على طريق الهجر، ومع الوقت بدأت بالتركيز على الطريق، فهو الآن حياتي الجديدة، أبعدت عن مخيلتي كل شيء. كان الطريق ضيقاً وبالكاد يتسع لسيارتين والمخيف في الأمر أنه مسارٌ واحد.!
في تلك الأثناء تحدث زوجي عن أشياء كثيرة لم ألتقط منها إلا الصبر والاحتساب والإخلاص.
وقوله: «تخصصكِ جيد ومطلوب ولن تقضي وقتاً طويلاً إلا وقرار النقل إلى الأحساء بين يديكِ»
عدت إلى تأمل الطريق وغفوت ثم انتبهت فجأة ولاح أمام ناظري بحيرة ماء في وسط الطريق وقلت لزوجي: «خفف السرعة أمامك بقعة ماء كبيرة»
فقال: «لابد أنك عطشى..! هذا ليس ماءً حقيقياً..! ألم تدرسي عن ظاهرة السراب.. هذا هو السراب..!»
«سبحان الله» قلتها بدهشة فقد كانت المرة الأولى التي أرى فيها سراباً.
قضينا حتى الآن ساعة ونصف ولم نصل. توقفنا كي تعبر قافلة من الجمال إلى الجانب الآخر من الطريق وحينها استلمت رسالة نصية من رئيسة القسم تفيد بانتهاء الاختبار وأن عليّ الحضور في أقرب فرصة لتصحيح الأوراق واعتماد النتائج..! كانت الرسالة قاسية تفيد بأن الكل يريد أن ينهي عمله ولا يهم إن كنت تتألم نفسياً أو جسدياً أو حتى تموت...!
قلت لزوجي: «لا بد أن العطش قد أثّر في عينيّ»
-» لماذا؟»
- «أرى سراباً كبيراً جداً على جانب الطريق «
انفجر ضاحكاً حتى دمعت عيناه وقال:
«هذا ليس سراباً...هذا الخليج العربي...!
استراحة في واحة..!
كنت في الأشهر الأخيرة من الحمل ومع هذه الحافلة الكبيرة، أنا الأولى ذهاباً والحادية والعشرون إياباً؛ لذا حظيت بشرف الكرسي الأخير فيها، وهو عادةً كرسي متّصل واسع يمكن الاستلقاء عليه، وهذا ما فعلته. تذكرت سيارة أبا محمد وكلمة زميلتي سمية «احمدي الله أن بداية تعيينك في فصل الصيف» يومها لم أفهم ما تعنيه لكني أدركت ذلك جيداً حين حلّ فصل الشتاء.
موعد الخروج لا يمكن تغييره صيفاً أو شتاءً، لكن موعد الأذان مختلف تماماً.. فنستقل السيارة قبل الفجر ونبدأ التجول في ربوع الأحساء. وإذا وصلنا لمنزل إحدى المعلمات، نتوقف لتأدية الصلاة في بيتها. وحين طال علينا العهد، كان السائق ينتهي من جمع المعلمات والفجر لم يُؤذّن له بعد؛ مما يضطرنا إلى الصلاة في استراحات الطريق، وهنا الطامة الكبرى...!
طريق خطر تملؤه الشاحنات واستراحات لا يمكن أن تفي الكلمات وصف حالها السيئ، فمن قرأ ليس كمن نظر...!
في الظلام الدامس يتوقف السائق ونحن ننقسم إلى مجموعتين: الأولى تبقى لحراسة السيارة والثانية تترجل مع السائق. وحين ينتهي من الصلاة يعود لمكانه. ثم يأتي دور المجموعة الثانية للنزول وتناوب الصلاة والحراسة.
حياة الأبطال حياتنا. تشبه ما نسمع عنه من حال الجنود في الحرب، لكننا لم نكن في حرب، كنّا في الشتاء فقط...!
في الكرسي الملكي خاصتي لم أشعر بنفسي إلا عند الوصول إلى المنبه «المطبة» والشمس تملأ أرجاء المعمورة..
« -في أي وقتٍ نحن ؟»
« -إنها السابعة.. تم تسطير الخط الأحمر لا محالة..!»
«-لماذا تركتموني نائمة... لم أصلّ الفجر..؟»
«-ظننا أنك في إجازة»
«-وهذا المتر الممتد أمامي، أنا حامل من أين تأتي الإجازة..؟ !»
في مشوار العودة نمت ولم أرفع رأسي إلا والسيارة مقفرة، واقفة على باب منزلي والسائق يكح و يتنحنح:
«- أم عبدالرحمن…. أم عبدالرحمن»
ويبدو أنه كررها كثيراً.. لم أركز مع العدد.. المهم أنني استيقظت على صراخه:
«آمال.... وصلنا»
على طريق المزارع...!
مع بداية كل فصل دراسي تتغير أشياء كثيرة. فتقل أعداد المعلمات في سيارة، وتزيد في أخرى، وهذا نتيجة حتمية لحركة النقل وحالات الحمل والولادة.
انتقلت من مرحلة المعلمة الجديدة إلى المعلمة الخبرة. فها هي السنة الثالثة تطرق عليّ الأبواب وأنا أقطع الطريق وأتابع تطوراته. وبفضل من الله بلغني الرحمن تحول الطريق من مسار واحد إلى مسارين، ولم نعد نخشى الناقلات الضخمة وهي تهز حافلتنا الصغيرة من شدة سرعتها.
ذات صباح وبعد انقضاء الصلاة بدأنا الرحلة، غادرت سيارتنا البوابة الكبيرة، وكالمعتاد كان «كومار» عامل المزرعة يسبقنا بإخراج قطيع الأغنام لترعى مبكراً قبل ارتفاع الشمس. أما والد ضافية فكان يردد الأهازيج البدوية التي لم أفهم منها إلا كلمة «يا الله ياللي..!». أما سيدة القهوة فتركت في ذلك اليوم محبوبتها ووقفت على باب المجلس وهي تدعو لنا بالحفظ والسلامة... هل أخرجتها غريزة الأمومة أم نصيبنا الذي ساق لنا تلك الدعوات لتخرجنا بفضل الله من الأزمة القادمة...!
قبل الخروج من منعطف المزارع، اعترضت طريقنا سيارة فخمة وترجل منها شاب ربما في الثلاثين أو أقل وأخذ يصرخ في السائق: «لم تأخرت، هل هذا اتفاقنا..؟»
كان أبو حسن رجلاً هادئاً وبالكاد سمعناه يرد: «الله يستر عليك» وكان الرد بداية لحوارِ ألغاز طويل مضحك بينهما..!
«-أين هي..؟»
«-لم تحضر اليوم.. سأحضرها لك غداً»
«-أقول لك أنزلها، فأنا أرى معك الكثير..!»
«-لا يصلحن لك، أصلحك الله» ثم أضاف وهو يمسك بالمحمول:
« سأحدثها أمامك الآن وأذهب لإحضارها، اذهب إلى سيارتك وانتظرني»
رفض الرجل الحراك وتحول إلى باب الحافلة الأمامي «افتح الباب... افتح الباب» رددها وهو يهز دفتي الباب المغلق.
أتذكر أن يدي كانت بيد حورية وكنّا نردد «الله يستر علينا»، واختلطت دعواتنا بالضحك على حال الرجل وترنحه حيناً وبالبكاء أخرى..! وضافية تبكي وتردد:
«حسبنا الله ونعم الوكيل، أصبحت المنطقة شبهة بسبب هذا وأشكاله» كانت تعتذر ووجهها يكاد ينفجر من شدة الخجل مما حدث.
بعد أن تيقنا من انتهاء الأزمة بدأنا نفكر جميعاً بصوتٍ عالٍ في عذر نكتبه في أسباب التأخير، فنحن على كل حال لن نصل إلا في الثامنة ونكون بذلك متجاوزات لكل مهلة ممكنة للخط الأحمر.
أيام الضباب
أسوأ أيام يمكن أن تصادفها المعلمات على الطرق السريعة هي أيام الضباب. فالحرارة مهما علت أو انخفضت لن تؤثر في الطريق، لكن مع الضباب، تبدأ الأزمات مبكراً. البداية، التأخر في المرور على المعلمات نظراً لقلة الرؤية داخل المدينة مما يضطر السائق إلى تخفيف سرعته، لتأتي الأزمة الحقيقية عند أول خطوة نضعها على الطريق الصحراوي، فلا نكاد نرى شيئاً.
تتناقص السرعة 100...، 80....، 50....، حتى يصل إلى العشرين وأحياناً يقف السائق ويرفض التحرك. أتذكر أن أحد السائقين قال لنا ذات ضباب: «إذا كان أهم ما في حياتكن الخط الأحمر، ففي حياتي ما هو أهم..!»
تواصلنا مع مديرة المدرسة وعرضنا عليها الأمر، والنتيجة، النظام فوق كل شيء..! فمعلمات الأحساء أساس المدرسة، لو أذنت لنا بالغياب جميعاً فسيكون اليوم عطلة..! لكنها استدركت: «أستطيع منحكن إجازة اضطرارية..!» توقف السائق وقال: «الله يهديكن.. نرجع الأحساء وأجرة اليوم، لا أريدها، إن كان خوفكم على الخصم..!»
كانت نظراتنا حائرة وكلٌ منا تنتظر كلمة من الأخرى. الإجازة الاضطرارية نحن بأمس الحاجة إليها وبَعضُنَا استنفدت رصيدها أصلاً. فخمسة أيام لا تفي ولن تفي بحاجة المعلمة الأم. والغياب دون عذر خيار مرفوض. نزل السائق بالسيارة إلى جانب الطريق على الرمال، شأنه شأن جميع المركبات. فكانت بجانبنا سيارات شخصية لموظفين وشاحنات ضخمة وحافلات نقل معلمات أيضاً. استسلمنا وجلسنا ننتظر الفرج من رب السماء.
فتحت الستارة بجانبي وإذا بمجموعة من سائقي الشاحنات يفترشون الأرض، ويضحكون ويستمتعون بأجواء الضباب؛ ببساطة لأنهم شعروا بالأمن في أرزاقهم وهذا أمن فقدته منذ اليوم الأول على طريق الهجر.
شارفت الساعة على الثامنة صباحاً ومازال الضباب متمسكاً بالأفق. طلبنا الإذن في العودة إلى الأحساء والتوقيع هناك، رفضت الإدارة الأمر رفضاً قاطعاً وكان الرد:
«انتظروا على جانب الطريق ومتى ما انقشع الضباب أكملوا طريقكم»
تحت ضغطنا؛ اضطر السائق للتحرك نحو المدرسة وهددنا بإخلاء مسؤوليته في حالة أي حادث. وافقنا ونحن باكيات متألمات وواصلنا الطريق. انحرف مسار السيارة أكثر من مرة وكاد أن يصطدم بإحدى الجمال السائبة على الطريق. تذكرت أطفالي وأهلي وأخرجت ورقة من حقيبتي كتبت فيها:
«السلام عليكم.. نحن الآن على الطريق وربما لا نعود..
في ذمتي للخالة منيرة خمسة عشر ريالاً سددوها عني. عبدالرحمن وعمر أمانة في أعناقكم... أمي.. أبي.. إخواني... علي.. أحبكم.»