ما زالت قضية اختفاء الصحفي جمال خاشقجي تأخذ كثيرا من المتابعين -في أنحاء العالم- ذات اليمين وذات الشمال.

فئتان فقط هما الثابتتان على موقف محدد ومعروف وظاهر، الأولى: الواثقون من أن الموضوع لعبة إخونجية استخباراتية -قطرية وغيرها- قذرة.

والثانية: أصحاب اللعبة القذرة ذاتها، ودعونا ابتداءً نقول: إن خاشقجي، اختار الانحياز والتخندق مع الحمدين والإخوان والممالئين لهم، وهو خيار لا يمكن فهمه إلا في سياق واحد فقط -إذا أحسنَّا الظنَّ- وهو أنه بعد الضربة المؤلمة لقناة العرب، وتهميش خاشقجي، أراد أن يقول: أنا هنا -وفقًا للأسلوب القديم الذي تغير مع القيادة السعودية الجديدة- وعندما أدرك أن هذه الخطة لم تعد تجدي نفعًا الآن، فكر في تغيير الخط والخطة، وهذا الذي لن يقبله الإخونجية وجلاوزة الحمدين بحال، وبغض النظر عن أحداث الاختفاء التي لا يمكن الحديث حولها إلا بعد انقشاع التضليل والأكاذيب، فإن السؤال الجدير بالطرح هنا هو: كيف استطاعت الآلة الإعلامية القطرية والإخونجية خداع العالم لبعض الوقت؟!

والإجابة هي: أن الأمر يكمن في خلق حالة أشبه بالحقيقة، عبر التضليل ونشر الأكاذيب بشكل مكثف جدا، وكما هو معلوم فإن الأكاذيب هشة، وتحتاج إلى رعاية مستمرة للإبقاء عليها حية، إذ إن عرض حقيقة واحدة تهد جبلا ضخما من الأكاذيب، فقامت تلك الآلة الملطخة بكل قبيح بتكثيف عملها وأكاذيبها بكل وسيلة وطريقة ممكنة، مما جعل أكذوبتها أمام فئام من الناس كثير كما لو كانت الحقيقة الوحيدة.

ويعتقد بعضهم أن مفهوم التضليل بشكل عام هو الكذب، غير أن مفهوم التضليل -كي يحقق مغزاه- لا يجب أن يكون كله كذبًا عكس الحقيقة، بل لا بد أن يحوي جزءا من الحقيقة، كي يخفي معالم التضليل ويُنكِّر وجوده.

فالتضليل الإعلامي هو: عرض جزء من الحقيقة، أو تعمد البناء الخاطئ على حقائق واضحة وثابته وموثقة، للوصول إلى تحقق الهدف من وجود هذا البناء الخاطئ، وهو حرف الواقع عن صورته الحقيقية، فكي ينطلي التضليل، وتحبك قصته، لا بد من وجود قدر ولو ضئيل من الحقيقة فيه.

ومن أساليب التضليل الإعلامي التي استخدمت في قضية اختفاء الصحفي جمال خاشقجي ما يلي:

1. التعددية الإعلامية: إن تعدد وسائل الإعلام بين قنوات تلفزيونية ومحطات إذاعية وصحف ومجلات، ومواقع إلكترونية، ومنصات تواصل من المفترض أن يمنع وجود التضليل الإعلامي، باعتبار أن تعدُّد وسائل الإعلام يؤدي إلى كشف بعضها بعضا، ويمنح الفرد فرصة الاختيار بين المصادر المختلفة للمعلومة، أو الانتقال بين وسيلة إعلامية وأخرى للحصول على معلومة أدق، أو معلومة حقيقية اتفق عليها أكثر الوسائل الإعلامية، وهنا يكمن التضليل تحت عباءة التعدد الإعلامي، حينما يمسك بزمام هذه الوسائل جهة واحدة، أو مصلحة مشتركة واحدة.

2. الإلحاح، والإغراق المعلوماتي والإخباري: إذ إن كثرة الإلحاح، ببث أكبر قدر ممكن من المعلومات والأخبار والتعليقات، بشكل لا يعطي للمتابع فرصة لالتقاط أنفاسه أو قياس المعلومة بمقاييس العلم والعقل، تجعله يقبلها كما هي، وبمفهوم تفرضه عليه وسائل الإعلام تلك، مما يجعل الإدراك للمعلومة إدراكا إجماليا لا يُمكِّن من التمعن في المعلومة، والتي تصنع في هذه الحالة وعيا مزيفا.

3. المصادر غير المؤكدة والمجهولة: نسبة الأخبار إلى مصادر غير مسماة، أو مصادر حكومية لها أجندة معينة، أو منحازة بشكل واضح أو مصادر مطلعة دون ذكر أي مرجعية معتمدة لذلك.

4. الحذف المحسوب: والفكرة هنا هي أن أي معلومة بسيطة حقيقية يمكن أن تنسف خبرا مضللا بكامله، وهكذا بدلا من ذكر تلك المعلومة يتظاهر المضلل وكأنها غير موجودة، وبحذف الحقيقة تبدو الكذبة معقولة تماما، مثلا: علاقة الخطيبة المزعومة بالسيد جمال أساسا، الهدف الحقيقي من زيارة السيد جمال للقنصلية... إلخ.

وهناك أسلوب تم اتباعه في هذه الأزمة المفتعلة، أسماه بعض المغردين: «ليلة الحذف الكبير»، إذ عمد المغردون المضللون إلى حذف كم كبير من التغريدات التي ذكرت أكاذيب بشعة في القضية، والهدف من ذلك ترسيخ كذبة على أنها حقيقة في ذهن البسطاء الذين لن يكلفوا أنفسهم عناء البحث عن الحقيقة في ركام المعلومات والأخبار الهائل من جهة، ومن جهة أخرى يستبعد عودتهم لمراجعة التغريدات المحذوفة التي ستبقى في أذهانهم على أنها الحقيقة.

وقصارى القول:

1. هناك أعداء ظاهرون يتمثلون في: إيران وأفراخها، والطغمة الحاكمة بأمرها في قطر، وأعداء أخفياء يتمثل عداؤهم في الإطار والمحيط السياسي، ومنافسة المملكة على زعامة العالم الإسلامي، والرابط المشترك الوحيد بينهم، هو جماعة الإخوان المسلمين الإرهابية، ولا أبالغ حينما أقول إن عداء الإخوان المسلمين للمملكة وحكومتها وشعبها في كفة، وعداوة كل الأعداء في كفة أخرى.

2. إن كل هذه التقنيات التضليلية لا تبرع فيها قطر، واستكثر عليها القيام بذلك وحدها، غير أن من يبرع فيها بشكل مذهل هم جماعة الإخوان المسلمين الإرهابية، لما لهم من زمن طويل في ممارسة الألاعيب والأكاذيب الإعلامية، ولما لهم من بنية لوجستية كبيرة في مختلف أنحاء العالم، ولتوافرهم على مختصين من أبناء الجماعة في مثل هذه الأمور.

3. كانت السعودية الحضن الدافئ لكل الخليج والخليجيين، وتحديدا من أواخر عام 1971، وهو تاريخ استقلال آخر دول الخليج، ولم يأت أي معكر سياسي أو دبلوماسي سعودي واحد من ذلك التاريخ إلا ما كان ردا رفيقا على بعض المشاغبات المعهودة، وكلنا نعلم الجهود الدبلوماسية والسياسية والعسكرية التي قامت بها السعودية من أجل أشقائها في الخليج. وقطر كانت ضمن السياق الخليجي المشترك، لكن العقدة النفسية الكبيرة لدى الحمدين هي ما أفسدت الدنيا وأشعلت الحرائق في كل مكان، وآن الأوان أن يقف كل هذا عند حد، وكي يستعيد الخليج عافيته لا بد من سرعة التخلص من فساد قطر، وفساد طغمتها الحاكمة التي باتت جسما غريبا على الخليج، فلا تكفي المقاطعة على المستوى السياسي والدبلوماسي والاقتصادي الإقليمي، بل لا بد من ملاحقة كل ذيول قطر وما يغذيها في العالم أجمع لمقاطعته وشله تماما.

4. نعي جيدا مدى عمق العلاقات السعودية التركية، ونعي كذلك أنه لا يوجد لتركيا أي مصالح ظاهرة تجعلها تقف في صف قطر -عدا الابتزاز المالي الذي ظهر مؤخرا- على الرغم من بيان ووضوح دور قطر التخريبي في عالم اليوم، إلا المنافسة السياسية مع المملكة، والمناكفة تحت شعارات وحجج واهية، وليس جديدا علينا أولئك الزعماء الذين أرادوا الاعتلاء على أكتاف السعودية، والذين لم يكن آخرهم القذافي الهالك.