على الرغم من أهمية «المحاسبة القضائية»، إلا أن الدراسات والكتابات في هذا المجال تعدّ نادرة جدا، ولم يسبق الحديث عنها، خاصة مع ارتفاع معدل الجرائم المالية، وصدور أنظمة قضائية جديدة، وازدياد الطلب على خدمات المحاسبة القضائية، وهذا النوع من المحاسبة له ممارسات عدة في المحاكم السعودية، ويمكن تعريف هذا المفهوم بأنه «تطبيق المفاهيم والمعايير المحاسبية والأنظمة والتشريعات القانونية في مجال حسم وفض المنازعات التجارية»، فهي بكل بساطة تتعلق بالدعاوى أو الإجراءات القضائية في الحالات المحاسبية والمالية، مثل الطب الشرعي، إذ تحتاج المحكمة إلى طبيب مختص للإدلاء بشهادته كخبير في الإصابات الشخصية أو الأخطاء الطبية أو جرائم القتل، وكذلك شهادة المهندس أو المقيّم العقاري في قضايا عقود التشييد والبناء.

فعلى سبيل المثال، قد تكون هناك منازعات تجارية بين شركتين، سواء كان هذا النزاع يتعلق بالمديونية والمتأخرات في عقود البناء أو ما يتعلق بالأضرار الناتجة عن خلل في مواصفات وشروط العقود، فيتم تعيين «شاهد خبير» من المحكمة كنوع من الشهادة الفنية تساعد المحكمة في تفسير التعاملات المالية والبيانات الرقمية، إضافة إلى فحص المزاعم والادعاءات المقدمة من الأطراف المعنية، والقيام بجمع الأدلة التي تثبت أو تنفي صحة هذه المزاعم، فهذه الشهادة تجمع بين الخبرة المحاسبية أو المالية ومهارات التقصي، وغالبا ما تقوم بهذه المهمة شركات المحاسبة القانونية.

ولا تقتصر المحاسبة القضائية على المنازعات التجارية وحسب، وإنما تشمل أيضا موضوعات أخرى مثل الاعتراضات الضريبية والزكوية، وقضايا الإفلاس والتأمين وقضايا الغش والفساد، وكذلك مساعدة الجهات المختصة في إجراءات التحقيق في الجرائم المالية، مثل غسل الأموال والاختلاس والغش في التقارير المالية، والمساعدة أيضا في حالات التهرب الضريبي ومتابعة السجلات البنكية للأشخاص المشتبه بهم، وكذلك الدعاوى القضائية المتعلقة بالجرائم المالية في البيئة الإلكترونية والاحتيال الرقمي.

وكما ذكرت آنفا، ليس هناك اهتمام واسع بأهمية المحاسبة القضائية، على الرغم من اعتماد المحاكم على شهادة الخبير المحاسبي في كثير من القضايا والمنازعات التجارية، والتي على أساسها يتم إصدار أحكام قضائية اعتمادا على تقرير المحاسب القانوني المعين من المحكمة، الأمر الذي يدعو إلى التساؤل حول واقع المحاسبة القضائية، ومدى كفاءة شركات المحاسبة القانونية في هذا المجال؟.

تشير إحدى الدراسات الدولية في مجال المحاسبة القضائية، إلى أن هناك بعض الصعوبات والمعوقات التي تواجه هذا المجال، منها على سبيل المثال: «عدم استجابة النظام التعليمي لطلب المجتمع لتعليم وممارسة المحاسبة القضائية، إضافة إلى عدم وجود معايير محددة لها، وضعف كفاءة وخبرات ومهارات المحاسب القانوني».

إضافة إلى المعوقات والصعوبات السابقة، يحجم كثير من شركات المحاسبة القانونية -خاصة الكبيرة منها- الدخول كشاهد خبير في القضايا التجارية، والسبب في نظري أن الدخول في هذه المنازعات قد يؤثر على العلاقات التعاقدية مع عملاء تلك الشركات، إضافة إلى أن الأتعاب المالية قد تكون منخفضة نسبيا، ولا تشكل عوائد مجزية لها، الأمر الذي أدى إلى دخول شركات صغيرة وقليلة في هذا المجال، سيطرت على خدمات المحاسبة القضائية، والتي قد تكون ضعيفة في هذا المجال، وبالتالي ينتج عن تقارير تلك الشركات أضرار بأحد أطراف النزاع، أو عدم القدرة على اكتشاف الاحتيال وتحديد الأدلة، أو ضياع حقوق العملاء.

والإشكال الكبير -في الحقيقة- يتمثل في عدم وجود رقابة على سوق خدمات المحاسبة القضائية، فعلى الرغم من أن تقرير المحاسب القانوني يعدّ من الارتباطات التي يؤديها المراجع للإدلاء بشهادته بصفته شاهد خبير في مجال المحاسبة والمراجعة، وتتمثل مسؤوليته في الالتزام بالمعايير المهنية، ومتطلبات قواعد آداب وسلوكيات المهنة، وفق نظام المحاسبين القانونيين ولائحته التنفيذية في المملكة العربية السعودية، فقد نصت المادة العاشرة من النظام على أنه «يجب على المحاسب القانوني التقيد بسلوك وآداب المهنة، وكذلك بمعايير المحاسبة والمراجعة والمعايير الفنية التي تصدرها الهيئة السعودية للمحاسبين القانونيين»، إلا أن عمل المحاسب القانوني في مجال المحاسبة القضائية غير خاضع لرقابة الهيئة السعودية للمحاسبين القانونيين!.

في بعض القضايا التجارية تحتاج المحكمة إلى خدمات المحاسب القانوني، فعلى سبيل المثال تحتاج المحكمة إلى تقييم القيمة السوقية للشركات، أو تحتاج إلى تحديد القيم العادلة للمبالغ المتنازع عليها، مثل المديونيات ومستخلصات العقود، وللأسف تقوم بعض شركات المحاسبة القانونية بهذه المهام دون الالتزام بالمعايير المهنية والفنية، وليس هذا وحسب، بل توجد أخطاء محاسبية في بعض التقارير، فضلا عن عدم وجود ضمان لعدم التواطؤ مع أطراف النزاع، وهنا ينشأ التزام قانوني على الممارس، ينتج عنها ضرر لأطراف معينة فتنشأ المسؤولية القانونية للمراجع، ولكن ليست هناك مرجعية واضحة لهذه المسؤولية.

إن النقاش في موضوع المحاسبة القضائية يطول، ولا يسع المجال للخوض في تفاصيل أكثر، ولكن يكفي تسليط الضوء على هذا المجال، بحيث يكون هناك اهتمام أوسع من المختصين والباحثين، وكذلك من الجامعات وكليات المحاسبة في تطوير المناهج الدراسية وتبني البرامج المهنية، وأيضا من الهيئة السعودية للمحاسبين القانونيين في الرقابة على شركات المحاسبة القانونية، وتضمين اختبارات الزمالة المهنية لموضوعات المحاسبة القضائية.