في رواية الأطفال الشهيرة للروائي لويس كارول نقرأ: دخلت أليس إلى حديقة ورود ملكة القلوب، التي دائما تأمر بقطع رؤوس الناس «اقطعوا رأسه!»، وهذا تماما ما أراه متجليا بالنسبة للسعار الذي أصاب إعلام العالم اليوم، لا يصدقون أن يظهر خبر ما في فترة ركود بالنسبة للنشاط السياسي العالمي، حتى يصاب هذا الإعلام بالسعار، وسرعان ما ينتشر حول العالم كانتشار النار في الهشيم، وحالهم يقول: «اقطعوا رأسه»! يريدون منّا أن نهدأ بما أنهم أصحاب الخبر اليقين والتحليل المنطقي السليم، بل إنهم رواد الحياد والموضوعية، ولكن ما يجري أنهم يجرّون العالم خلفهم في جنونهم هذا، فيختلط الحابل بالنابل، وإن ظهرت معلومات تناقض كل ما قدموه، فإنهم لا يعتذرون، بل يمضون إلى السبق الإعلامي التالي!

ذكر الكاتبان روبرت بارثولوميو وبنجامين رادفورد، في كتابهما «لقد هبط المرّيخيّون: تأريخ لحالات من الذعر والخيال في وسائل الإعلام»، حادثة اعتُبِرت من أكثر هجمات القرش الدرامية على الإطلاق، لطفل هوجم من قبل سمكة القرش التي قضمت ساعده، فما كان من عمه إلا أن اصطاد السمكة والساعد ما زال في فمها، ومع مساعدة الغير تم فتح فكيها وإخراج الساعد، ومن ثم الانطلاق به إلى أقرب مستشفى، حيث أجريت له عملية استمرت إحدى عشرة ساعة لإعادة الساعد إلى جسد الطفل، هكذا بدأ الحدث، لكنه بفضل الإعلام تحوّل إلى جنون وسعار أصاب البلاد والعباد! لقد دفع هذا الجنون الأميركيين إلى ما يسمى بجنون القرش، ولازمهم في كل مكان من المتاجر إلى المطاعم إلى البنوك إلى الأسواق وكل التجمعات، فلم يكن يتحدث الناس عن أي شيء آخر سوى هجمات أسماك القرش، حتى إن التلفاز والمذياع والصحف والإنترنت غرقت في بث أخبار أحدث الهجمات، بل إن قناة تلفزيونية وضعت بثا مباشرا لكاميرات مراقبة تمكّن الناس من مراقبة النقاط الساخنة في أي وقت من ليل أو نهار! نعم لقد كان صيفا صحفيا بطيئا، وكان على وسائل الإعلام التحدث عن شيء ما، وقصة هجمة سمكة القرش اتسقت مع هذا البروفايل! بمعنى لو أن الأمر تعلق بهجمة خلية دبابير أو هجمات ذئاب وحشية لاستدارت الكاميرات إلى اتجاه مختلف تماما!

يضيف الكاتبان أنه في كل فترة يقع الإعلام في محبة حدث ما، فتجيش له جميع الإمكانات، ويبدأ الهجوم وتتواتر الأخبار، المشكلة أن المراسلين وأغلبهم من قليلي الخبرة أو التأهيل، يميلون إلى التركيز على ما يسمى بالخبراء الذين يقدمون أكثر المزاعم إثارة! ولكن بعد إجراء المقابلات مع الخبراء المتخصصين ويظهر الإجماع الأكثر تحفظا ومنطقية وواقعية، تبدأ الفورة بالهدوء، ولكن بعد أن يكون قد أرهق الجمهور وشتّت في كل منحى إلا في الاتجاه الصحيح! وأفضل وصف لهذا الجنون الإعلامي، رغم أنه يتحدث عن حدث معين، لكنه في نظري لا يخرج عن وصف الإعلام بكل أشكاله وفروعه، هو التلخيص الذي قدمه هوارد روزنبرج الإعلامي الحائز على جائزة بوليتزر للنقد، وهو يتحدث عن أحداث صيف عام 2001: «احتشدت الحيوانات المفترسة المتعطشة للدماء، وجريا خلف غرائزها البدائية هاجمت بشراسة، فخلقت موجات الذعر من خلال حجم فكوكها الكبيرة وأسنانها الحادة»! وهو بالطبع لم يكن يعني سمك القرش!

والمطلوب منا حينما نجد أننا في قلب مثل هكذا عاصفة أن نسترخي ونستنشق جنون الإعلام! أن نتخلى عن المنطق، وأن نتغاضى عن الخبر الموثق، وأن نتبع أخبارا جلّها قيل عن قال، تم نقلها من وسيلة إعلامية إلى أخرى! أن نصدق مثلا بأن دولة عظمى والتي عجزت عن أن تتعرف على قاتل أكثر من شخصية عالمية سياسية كانت أو إعلامية على أراضيها وتحت أنفها، استطاعت أن تتعرف على تفاصيل أحداث تمت في أرض تبعد عنها مئات الآلاف من الكيلومترات! يريدون منّا أن نبارك موقف كل من انسحب من فعاليات أو اتفاقيات محلية بناء على أقوال لا حقائق، وقبل أن تبدأ أي تحقيقات رسمية! يريدون منّا أن نصدق بأن الإعلام لديه معلومات هي بيد دولة، والتي إن كانت تمتلكها فعلا، عاجزة أو رافضة عن الإفصاح عنها! يريدون منّا أن نصدق فبركات من الصور التي ثبت تزويرها! ويريدون منا أن نصغي إلى غالبية من المحللين المعروفين بالعداء لنا وأن نصدق! وكالعادة أصبح الجميع خبراء في كل شيء، حتى الذي صادف مروره في الشارع! سبحان الله! حين يتعلق الأمر بهم يطالبون بالتحقيق الشفاف والأدلة الموثقة، والرجوع إلى الجهات المتخصصة المحايدة، ولكن حين يتعلّق الأمر بغيرهم ينسف كل ذلك ويُضرب به عرض الحائط!

نريد أن نعرف؟ نعم! ولكن ما نريده هو الحقائق دون أي رتوش أو إضافات، دون أي تزوير أو فبركات، فليست هذه أول أزمة تمر علينا ولن تكون الأخيرة! ونحن لن نؤجّر عقولنا أو نسمح لأي أحد بأن يستغلنا، وما تتمخض عنه التحقيقات الرسمية باشتراك الوفد الرسمي المتخصص من دولتنا سوف ندعمه، سواء كان معنا أو علينا، لكن إلى ذلك الوقت سنترك الجنون لكل مسعور، ونضيف «وهذا أيضا سوف يمضي»!